تفسير القرآن
الناس

 الناس
 

سورة الناس المقدمة الآيات 1-6
سورة الناس
مدنية، وآياتها ست

في أجواء السورة

وهذه سورةٌ مميزةٌ باعتبارها إحدى السورتين المعوذتين، ولكنها تختلف عن السورة الأولى بأنها لا تدعو إلى الاستعاذة بالله من العوامل الشرّيرة الخارجية التي تترك تأثيراً سلبياً قاسياً من قبل الآخرين أو الأوضاع الكونية المحيطة بالإنسان، بل تدعو إلى الاستعاذة من العوامل الداخلية التي تتحرك في النفس في منطقة الفكر أو الشعور، من خلال الوسواس الذي قد يكون بشراً وقد يكون جنّاً، بطريقة طبيعية أو غير طبيعية، بحيث ترهق حياته النفسية التي قد تترك تأثيراتها السلبية على حياته العملية في عمله، أو في قوله، أو في علاقاته بالآخرين، مما قد يدمّر واقعه، أو يؤدي به إلى القلق والحيرة والضياع، أو يقوده إلى الارتباك والاهتزاز في خطواته العملية في الحياة، فيحتاج ـ بفعل الخوف والذعر من النتائج القاسية الصعبة التي لا يستطيع الخلاص منها ـ إلى الاستعاذة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ *إِلَهِ النَّاسِ}، الذي يملك تدبير أمورهم، ويملك ذواتهم ووجودهم، ويستعبدهم من موقع الألوهية المهيمنة على الأمر كله، {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ *الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ويختفي ليترك تأثيرات وسوسته تتفاعل في داخله {مِنَ الْجِنَّةِ} الذين لا يستطيع أن يتعرف عليهم {وَالنَّاسِ} الذين لا يشعر بحركة وسوستهم في داخله بشكلٍ واضحٍ.

ــــــــــــــــــــ

الآيــات

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (1ـ6).

* * *

الاستعاذة بإله الناس

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} الذين يربّيهم ويدير أمورهم. {مَلِكِ النَّاسِ} الذي يملكهم من موقع خلقه لهم. {إِلَـهِ النَّاسِ} الذي يستعلي على الناس ويستولي عليهم، وهو الذي يملك عليهم أن يعبدوه ويرجعوا إليه في كل شيء، لأنه إله كل شيءٍ.

{مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وذلك في ما يثيره في النفس من أفكارٍ شريرةٍ، وخيالاتٍ معقّدةٍ، وأحلامٍ كاذبةٍ، ومشاعر حادّةٍ، بحيث تؤدي إلى إثارة الفتنة في حركة الناس في علاقاتهم العامة والخاصة، من خلال الإيحاءات التي يثيرها في داخل الكلمات ليعقّد الأوضاع من حولهم، وإلى إضلال العقل والإحساس من خلال الشبهات التي يحركها أمام العقيدة، ليدفع الناس إلى الكفر والضلال، أو من خلال علامات الاستفهام المعقّدة أمام القضايا التي تدخل في منطقة الشعور أو تتحرك في دائرة العاطفة، وإلى إثارة الغريزة في حركة الشهوات في الجسد في أجواء الإغراء والإغواء، وإلى تحريك الذهنية المسيطرة في أجواء العلوّ والاستكبار والسيطرة التي يعيشها السلاطين على الأرض في خطّ الظلم والفساد، وغير ذلك مما يثيره الوسواس الذي يكمن للإنسان في مواقع الغفلة، فيدفع بالكلمة إلى السمع، وباللمسة إلى الإحساس، وبالفكرة إلى الذهن، ثم يبتعد ويختفي، ليترك الكلمات في موقع التفاعل في الذات، وفي الإحساس، وفي العقل، ثم يعود من جديد إلى الوسوسة التي تترك تأثيراتها في الكيان الروحي للإنسان.

وقد ورد في الحديث المرويّ عن النبي(ص)، في ما يروى عن ابن عباس، قال: قال رسول الله(ص): « إنَّ الشيطان ليجثم على قلب بني آدم له خرطوم كخرطوم الكلب، إذا ذكر العبد الله عز وجل خنس أي رجع على عقبيه، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس»[1]. وورد في حديث الإمام الصادق(ع) قال: قال رسول الله(ص) : «ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان، أذنٌ ينفث فيها الملك وأذنٌ ينفث فيها الوسواس الخناس، فيؤيد الله المؤمن بالملك وهو قوله سبحانه:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ}»[2] [المجادلة:22]. وقد ورد في حديث أهل البيت(ع) أن الوسواس الخناس يوسوس للإنسان فيوقعه في الذنب، ثم يوسوس له فينسيه التوبة.

{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ} فقد يكون الوسواس الخناس من الجنّ الذين قد يزيّنون للإنسان الكفر والمعصية والضلال في ما حدّثنا الله عنه في القرآن من حركة الشيطان في حياة الإنسان، ولكنه لا يملك السيطرة على الإنسان الذي يلتفت إلى نفسه، وينفتح على ربه، وذلك في ما كرّره الله من قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، ولكن كيف يوسوس الشيطان للإنسان، وكيف يدخل إلى عقله وإحساسه وحياته؟ إننا لم نجد وسيلةً لنتعرف إلى ذلك بطريقة مادية، ولكننا نعيش النتائج في أنفسنا، من خلال حركته في الفكر والإحساس والوجدان. وقد يكون هذا الوسواس الخنّاس من الإنس الذين يعيشون مع الإنسان ويملكون بعض التأثير عليه، من خلال علاقات المزاج أو القرابة أو الصداقة أو المصلحة أو الشهوة أو السلطان ونحو ذلك، فيستغلّون الجانب العاطفي أو الغريزيّ، أو الضعف الذاتي، للنفاذ إلى داخل شخصيته من أجل إغوائه وإغرائه وتوجيهه إلى مواقع الضلال.

إيحاءات تربوية للسورة

وفي هذ السورة دعوةٌ إلى الإنسان ليستعيذ من هذا الوسواس الخنّاس الذي يشكِّل خطراً على التزامه الفكري والعملي، وعلى سلامته في الدنيا والآخرة. وليتطلّع إلى الله رَبِّ النَّاسِ وملِك النّاس وإِلَهِ النَّاسِ، ليجد فيه العون كلّ العون، والقوّة كل القوّة، وليستشعر ضعف هذا الوسواس الخنّاس أمام الله، وأمام الوسائل التي وضعها بين يدي الإنسان ليحميه من شرّه، ولينقذه من حبائله ومن مكره وخداعه ووسوسته وتثبيطه، ومن كل مكائده.

وهذا هو أسلوب التربية الروحية الوجدانية التي يريد الإسلام أن يؤكدها في شخصية الإنسان المؤمن، ليؤكد قوّة الموقف لديه، وثبات الإيمان في نفسه واستقامة الطريق في حياته. وهو أن يرجع إلى الله في إحساسٍ عميقٍ بقوّته التي تحميه من قوّة الآخرين، وبرحمته التي تفيض على روحه حبّاً وأماناً وسلاماً وخيراً وبركةً، فتمنحه الطمأنينة الروحية والثبات الواقعي في الحياة.

والحمد لله رب العالمين

(1) البحار، م:24، ج:67، ص:33، باب:44، رواية:3.

(2) (م.ن)، م:24، ج:67، ص:32، رواية:3.