تفسير القرآن
المسد


سورة المسد الآيات 1- 5
سورة المسد
مكية، وآياتها خمس

في أجواء السورة

في هذه السورة المكية أسلوبٌ مميّز لقضية مثيرة، فقد كان أبو لهب بن عبد المطلب، «واسمه عبد العزى»، عم النبي، وقيل إن هذه الكنية كانت من أجل إشراق وجهه، وكانت امرأته أم جميل بنت صخر، وكان هذا الرجل وامرأته عدوّين لدودين للنبي(ص)، بالرغم من القرابة القريبة التي تربطه بهما، وكان من مظاهر عداوته ما رواه ابن اسحاق، قال: «حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول: إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) يتبع القبائل، ووراءه رجلٌ أحول وضيء الوجه ذو جمّة، يقف رسول الله(صلى الله عليه وسلّم) على القبيلة فيقول: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصدقوني وتمنعوني، حتى أنفّذ عن الله ما بعثني به»، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان، هذا يريد منكم أن تسلخوا اللاّت والعزّى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب[1].

وقيل: إن أبا لهب خالف عشيرته بني هاشم، عندما اجتمعوا على حماية النبي(ص) وانضم إلى قريش، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلِّموا لهم محمداً(ص).

والواقع أننا لا نملك تفسيراً لذلك في هذه العقدة المستحكمة في هذا الرجل، لأننا لا نستطيع إرجاعها إلى شركه العقيدي والعبادي، لأن بني هاشم لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام جميعاً في بداية الدعوة، بل كانت لهم عاطفة الرحم، وعصبية العشيرة، وإن لم تكن لهم روحية الإسلام. فهل تكون امرأته معقّدةً من النبي(ص) بفعل بعض الحساسيات والتعقيدات المرضيّة من خلال قرابتها لأبي سفيان، لأنها أخته، فكان لها تأثيرٌ كبيرٌ عليه، كما يحدث لبعض الرجال الذين يخضعون ـ عاطفياً ـ لزوجاتهم اللاّتي قد يعشن العقدة ضد بعض أهاليهم، فيعقّدون الرجال منهم؟ وهل يكون لوضعه المالي المميز الذي يوحي به القرآن في قوله تعالى: {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} دخلٌ في هذا الموقف، باعتبار إخلاصه لموقعه الطبقي الذي يضمّ كل أصحاب الأموال المترفين الذين كانوا في طليعة المعادين للرسالة وللرسول في كل مواقفهم العدوانية؟

ربّما كان الأساس هو صفته المالية التي تغلّبت على صفته العائلية، فجمّدت عاطفته خوفاً على امتيازاته ومصالحه من هذا النبي الذي لا يملك مالاً أو موقعاً مميّزاً في المجتمع، فهو يتيمٌ فقير يعيش في كفالة أبي طالب، فكيف يجرؤ على أن يتحدى المجتمع الغنيّ، وكيف يتحدى موقع عمه الذي سوف يواجه الحرج من أفراد طبقته التي تحمّله مسؤولية الأضرار التي تنالها من خلال رسالته ومن خلال جماعته من هؤلاء الفقراء الذين تجمعوا حوله ليواجهوا علية القوم من السادة الكبراء.

وقد تكون زوجته متأثرةً به في هذا السلوك العدائي بالإضافة إلى قرابتها، باعتبار أنها من أفراد هذه الطبقة الغنية من خلال موقع زوجها الغني، بالإضافة إلى عقدتها الذاتية.

* * *

من وحي السورة

وقد نجد في هذه السورة تأكيداً للقيمة الإسلامية الرافضة للقرابة إذا كانت منفصلة عن الانتماء الإسلامي، حتى لو كانت متصلة بالنبي بأوثق الصلات، فإن أبا لهب الكافر المشرك لم يحصل من قرابته للنبي على أيّ امتيازٍ، بعد أن كان عدوّاً لله ورسوله، بل كانت المسألة ضد الامتياز، فقد ذكره القرآن بالذمّ والتحقير، ولم يذكر أحداً من المشركين غيره، تأكيداً للرفض الإسلامي له بالمستوى الذي يفوق رفضه للآخرين من المشركين، لأن النسب قد أضاف إلى جريمته جريمةً باعتباره الأعرف بالرسول، فكيف يتنكّر له ولرسالته.

ـــــــــــــــــ

الآيــات

{تَبَّتْ يَدَآ أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} (1ـ5).

* * *

معاني المفردات

{تَبَّتْ}: التبّ والتباب، الهلاك والخسران.

{مَّسَدٍ}: حبل مفتول من ليف.

* * *

مناسبة النزول

وقد ذكر البخاري، كما جاء في المجمع عن ابن عباس قال: صعد رسول الله(ص) ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه، فأقبلت إليه قريش فقالوا له: ما لك، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد، فقال أبو لهب: تباً لك، لهذا دعوتنا جميعاً، فأنزل الله هذه السورة[2].

* * *

الخسارة الكبرى

{تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كناية عن خلوِّ يديه اللتين هما بدورهما كناية عن كل ما يجلبه الإنسان لنفسه من خير من كلّ ما يحقق له الربح والنجاة والنجاح، لأن الله قد جرّده من كل ذلك من جهة كفره وعناده وغلوّه في عداوته للرسول وللرسالة، ما جعل يديه خاسرتين في النتائج الطيبة في الحياة، كما جعله خاسراً من سلامة مصيره في الآخرة.

{مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} لأن المال قد يمثل حاجةً يستعين بها الإنسان على تدبير الأمور المادية في حياته، ولكنه لا يحقِّق له النجاح على المستوى الروحي والمعنوي والمصيري عند الله، عندما يقف الناس ليواجهوا النتائج السلبية في أعمالهم. وهذا هو التأكيد المستمر في المفهوم الإسلامي في رفض المال كقيمة مميّزة تنقذ الإنسان من النتائج الوخيمة التي تصيبه في الحياة، لأن المال ليس جزءاً من شخصيته، لترتفع قيمتها بكثرته، أو لتنخفض بقلّته، بل هو شيءٌ خارج عن ذاته، مضاف إليه بالاحتواء الشخصي أو بالإضافة القانونية، بل القيمة كل القيمة، في ما يحسنه الإنسان ويعمله..

{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} يحترق به في ما يوحي به اسمه من علاقته باللهب في مصيره وما يقتضيه عمله من مصيره اللاهب في نار جهنم، جزاءً له على كفره وشركه.

{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} المليء بالشوك الذي كانت تطرحه في طريق النبي(ص) في ما روي في سيرتها، أو الحطب الذي تحترق به على سبيل الكناية مما تحمله على ظهرها من الأعمال السيّئة الإجرامية في عدوانها على النبي التي تؤدي بها إلى النار.

{في جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} وهو الحبل المفتول من الليف، الذي كانت تشد به على الحطب لتربطه به، فسيتحول إلى حبل يشتد على عنقها ليخنق أنفاسها في نار جهنم.

وتلك هي قصة القريب العزيز الغني ذي النسب الهاشمي العريق، وقصة المرأة المعجبة بنفسها المدلّة بحسبها ونسبها، في النهايات الذليلة الحقيرة التي يتحوّلان ـ معها ـ إلى حطبٍ يحترق، وإلى كميّة مهملة تتبخّر مع الرماد.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير ابن كثير، ج:4، ص:948.

(2) مجمع البيان، ج:10، ص:851.