تفسير القرآن
الكافرون

 الكافرون
 

سورة الكافرون
مكية، وآياتها ست
الآيات 1-6

في أجواء السورة

نجد في هذه السورة لوناً من ألوان التأكيد على الموقف الحاسم في المسألة العقيدية التي تأخذ عنوان العبادة الذي يختزن في داخله كل خطوط الالتزام الفكري والعملي، فهناك عبادة الله التي تعني الإيمان به على أساس أنّه الخالق القويّ القادر القاهر الحكيم المدبّر المنعم، والإله الواحد الذي لا إله غيره، والخضوع له خضوعاً مطلقاً في كل ما يأمر به أو ينهى عنه، ورفض الخضوع لغيره، إلاّ في ما يتصل بالخضوع له، والسير على المنهج الذي أراد من الناس أن ينهجوه من خلال رسالاته التي أوحى بها إلى رسله، وهناك عبادة الأوثان التي تعني الإيمان بالأسرار المقدّسة الخفية التي تختفي في داخلها ما يجعل لها قيمةً روحيّةً ترتفع بها إلى درجة الحظوة عند الله، بحيث تُقرّب المتعبدين إليه، وتشفع لهم عنده، وبهذا تتحوّل هذه الأصنام إلى شركاء لله في العبادة، كما يخضع الواقع الإنساني إلى لونٍ من المفاهيم والعلاقات والأوضاع المتحركة في القيمة المادية المتمثلة في الذهنية الوثنية المرتبطة بالحسّ كأساسٍ للإيمان وللقناعات، مما قد تتعقَّد معه مسألة الإيمان بالغيب والنبوّات واليوم الآخر.

وهكذا نجد أنهما منهجان متضادّان لا يلتقيان عند قاعدة واحدةٍ، ولا يتحركان في صعيد واحد، كما أن الإنسانين اللذين يختلفان تبعاً لاختلافهما يتباعدان عن بعضهما البعض ابتعاد الوثنية المادية عن التوحيدية الإلهية الروحية، في الفكر والشعور والحركة والمنطلق والموقف. فالإنسان الذي يعبد الله هو الإنسان الذي يتطلع إلى الله خالق الكون كله، الذي يسبّح كل شيء بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، والذي يتحرك الخلق كله في نعمه وفي تدبيره، ليكون وجوده الواعي تجسيداً لطاعته، وحركةً من أجل الحصول على رضاه، فهو الإنسان المسؤول أمام الله في كل شيء، ما يجعله يدقق في الصغير والكبير ليتعرف مواقع طاعة الله ومعصيته فيهما، لأنه يراقب مسألة المصير عندما يقوم الناس لربِّ العالمين ليحاسبهم على عملهم من خيرٍ أو شرّ. وهو الإنسان الذي ينطلق في علاقاته بالناس من خلال الصلة التي تربطهم بالله، ليوالي من والى الله، وليعادي من عاداه، ولذا فإنه لا ينطلق من الدوافع الذاتية، بل من المواقف الإيمانية المنفتحة على الناس من خلال الله ربِّ العالمين. وهكذا تختصر الحياة كلها لديه كلمةٌ واحدةٌ، هي الإيمان بالله والاستقامة على خطّه المستقيم.

أمَّا الإنسان الذي يعبد الأوثان، فهو الذي يبقى خاضعاً للزوايا الضيّقة التي تتمحور حول هذا الحجر أو ذاك، في ما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا حياةً ولا موتاً، ولذلك فإنه لا يملك رحابة الأفق، وروحانية الروح، وحيوية الفكر، بل يبقى مشدوداً للتقاليد، بعيداً عما إذا كانت نافعةً أو ضارّةً، أو حقّاً أو باطلاً، فليست الحقيقة هي التي تشده للإيمان، بل هو التاريخ الميت في تاريخ الآباء والأجداد، وهو الإنسان الجامد الذي لا يريد أن يتحرك فكره بالحوار، ليغيّر قناعاته الخاطئة من خلال ذلك، كما أن علاقاته وأوضاعه خاضعة لمطامعه وشهواته وأنانياته لا للمصلحة الإنسانية العليا، ولا للقيمة الروحية الكبيرة. وبذلك كان إنسان الهوى الذي يتخذ إلهه هواه، وإنسان العبث واللعب واللهو الذي يرى الحياة فرصةً لذلك كله، ثم تنفجر كمثل الفقاعة التي لا تترك وراءها شيئاً، ولا تستقبل أمامها أيّ شيء.

وعلى ضوء هذا، فلا بدّ للإنسان من أن يقف أمام الفواصل الحقيقية التي تفصل بين هذا الخط وذاك، ليتّخذ مواقفه على أساس الانتماء المحدّد في كل معطياته وإيحاءاته ومسؤولياته وعلاقاته، فلا يخلط بين هذا وذاك في ما لا يجوز فيه الخلط، لأن هناك تبايناً كبيراً بينهما في جميع المواقع، فكيف يشرك بالله من يوحّده، وكيف يوحّده من يشرك به، وكيف يؤمن بالغيب من كانت عقيدته قائمةً على إنكاره، أو ينكر الغيب من كانت عقيدته قائمةً على الإيمان به؟ فلا مجال للتسويات من ناحية المبدأ، ولا مجال للتبادل من ناحية التوزيع على أساس التفاصيل. وهذا ما أرادت السورة أن تؤكده، ردّاً على العروض التوفيقية التي تجمع بين المتضادين وتساوي بين المتباينين، فلا بد للفريقين المسلم والمشرك من أن يتنازل أحدهما عن موقفه ليلتقي بالآخر، لأن الشرك لا يلتقي بالوحدانية، ولأن الكفر لا يجتمع مع الإيمان.

ــــــــــــــــــــــ

الآيــات

{قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1ـ6).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب نزول هذه السورة، في الدر المنثور: «أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري، قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطّلب، وأميّة بن خلف، رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) فقالوا: يا محمد، هلُمَّ فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ولنشترك، نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصحّ من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصحّ من الذي نحن عليه، كنا قد أخذنا منه حظاً، فأنزل الله: {قُلْ يا أيّهَا الْكَافِرُونَ* لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} حتى انقضت السورة[1].

وجاء في تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير قال: سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول عن قول الله: {قُلْ يا أيّهَا الْكَافِرُونَ* لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ* وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ*وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول، ويكرّر مرةً بعد مرةٍ؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.

فدخل المدينة، فسأل أبا عبد الله ـ جعفر الصادق(ع) ـ عن ذلك، فقال: كان سبب نزولها وتكرارها، أن قريشاً قالت لرسول الله(ص): تعبد آلهتنا سنةً ونعبد إلهك سنةً، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فأجابهم الله بمثل ما قالوا، فقال في ما قالوا: تعبد آلهتنا سنة: {قُلْ يا أيّهَا الْكَافِرُونَ الْكَافِرُونَ* لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وفي ما قالوا: نعبد إلهك سنةً: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ}، وفي ما قالوا: تعبد آلهتنا سنةً {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} وفي ما قالوا: نعبد إلهك سنة: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[2].

* * *

العبادة لله الواحد الأحد

{قُلْ يا أيّهَا الْكَافِرُونَ} بالله أو بوحدانيته، من خلال المنهج الذي تسيرون عليه، والالتزام الذي تلتزمونه في حياتكم على خطِّ العبادة في العقل والروح والشعور والحركة والموقف، قل لهم، إذا دعوك إلى عبادة آلهتهم التي هي أحجارٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولا تنطق ولا تسمع، ولا تحس ولا تتحرك، مما لا معنى له في وعي الإنسان الذي يحترم عقله، ويلتزم إنسانيته، قل لهم، إذا حاولوا أن يخدعوك بالتلويح لك بأنهم سيعبدون الله في مقابل عبادتك للصنم، قل لهم كلمة الرفض الحاسم الذي لا يوافق على التسويات في خط العقيدة، لأنهم لو آمنوا بالله لوحّدوه في العبادة، ولكنهم يريدون أن يحصلوا من طروحاتهم عليك، على شرعية أصنامهم، ليسقطوا دعوتك من خلال اعترافك بآلهتهم ولو بمقدار لحظة. فكيف تستطيع بعدها أن تهاجمها، وترفضها، وترجمها بالحجارة وتكسّرها، وتدعو الناس إلى أن يبتعدوا عنها، إذا قدّمت لها فروض العبادة، وحركات الخضوع في وقتٍ معيّنٍ مهما كان هذا الوقت؟ وبذلك تلغي رسالتك القائمة على التوحيد الذي لا يعترف بالشرك، بل جاء رفضاً للشرك كله. قل لهم: {يا أيّهَا الْكَافِرُونَ} الذين تكفرون بالله أو بتوحيده، وتريدونني أن أصدِّق أنكم جادُّون في طرحكم أنكم تريدون عبادته {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لأن الله قد أرسلني لأرفض الذي تعبدونه، ولأدعو الناس إلى أن يرفضوه، فكيف تدعونني إلى أن أعبده؟!.

{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} لأن الذين عاشوا الوثنية في عقولهم ومشاعرهم وحياتهم، كيف يقتنعون بعبادة الله الواحد، في الوقت الذي كانوا فيه يتحركون ضد الرسول الذي جاء بالتوحيد في العقيدة وفي العبادة.

{وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} وهذا تأكيدٌ للرفض الأول بصيغة الجملة الاسمية الدالة على ثبات الصفة واستمرارها.

{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} لأنكم ـ في موقفكم ضدي ـ تمثلون الرفض كله، فكيف تريدونني أن أقبل منكم ذلك؟

* * *

ديني هو الإسلام لله ودينكم دين الشرك به

إن المسألة الحاسمة، هي أن هناك عبادتين تختلفان في طبيعتهما وفي منطلقاتهما، وفي حركتهما في الواقع الإنساني، وأن هناك دينين يختلفان في قاعدتهما وفي شريعتهما وفي طريقة العبادة فيهما، وفي مضمون الألوهية عندهما، وفي نظامهما الأخلاقي، وقد أخذتم بدين الشرك وارتضيتموه عن قناعةٍ أو عن تقليدٍ، أو عن طمع واستكبار، أمّا أنا، فقد أخذت بدين التوحيد الذي هو دين الإسلام من موقع القناعة اليقينية والإيمان الحاسم. ولتكن الكلمة الأخيرة هي الكلمة الفاصلة التي تمنع اللقاء إلا على أساس وحدة الدين والانتماء.

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فإذا كنتم لا تريدون الالتزام بديني، فابتعدوا عني، لأني لن أترك ديني الذي أخلصت به لله في كل ما يريده ويرضاه. وعلى المعنى الثاني، وهو إرادة الجزاء من كلمة الدين، فيكون المراد، لكم جزاؤكم على عبادتكم، وهو النار، ولي جزائي على عبادتي وهو الجنة.

* * *

السورة في خط المنهج

إن هذه السورة تمثل المنهج للمسلمين في مواجهة العروض التي تقدَّم إليهم في ساحة الصراع من أجل إنهاء القطيعة، وإيجاد قاعدة للصلح، مما قد يتعارف الناس على الوصول إليه، بالتسويات العملية التي تعمل على أساس المناصفة، بأن يتنازل هذا الفريق عن بعض مواقعه والتزاماته لمصلحة الفريق الآخر الذي يتنازل له عما لديه بالنسبة نفسها، ليلتقيا في نصف الطريق لمطالبهما. ولعلّ هذا ما قدّمه هؤلاء المشركون للنبي(ص) في ما جاء به حديث أسباب النزول، الذي أكّد على أن يعبد النبي(ص) الأوثان سنةً، ليعبد المشركون الله سنة، ليتساويا في الاعتراف المتبادل في وقت خاص.

وقد يكون المطروح في عروض الصلح، هو المطالبة بتجربة الموقف الذي يقف فيه أحدهما من قِبَل الآخر ليعيش آفاقه، وليدخل في تجربته، فلعلّه يقتنع به ليتخذ الموقف على أساس الفكرة الواحدة.

إن السورة تطرح الرفض لهذه الفروض من ناحية المبدأ، لأن المسألة تتعلق بالخط الأساسي للدين، وهي مسألة عبادة الله التي تمثل خط التوحيد ومنهجه في العقيدة والحياة، في مقابل مسألة عبادة الأوثان التي تمثل خط الشرك ومنهجه فيهما، ما يعني التنازل عن أساس الالتزام العقيدي، فإنّ الإسلام قد جاء لمحاربة الوثنية بالعقيدة التوحيدية، فكيف يمكن الاعتراف بها من ناحية المبدأ في ما يعنيه ذلك من الابتعاد عن الجدّية في الدعوة إلى وحدانية الله؟!

* * *

الواقعية في العمل الإسلامي

ولعلنا نستطيع التحرك بعيداً في هذا الموضوع، في القضايا العامة، من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، لنميّز في طروحات الوفاق في هذه الأمور بين القضايا الكبرى المرتبطة بالخط المستقيم وبالمصير النهائي، وبين القضايا الصغرى المرتبطة بالخطوط التفصيلية المتحركة في دائرة الأوضاع المتحركة والمراحل المتغيّرة، فلا نقدّم التنازل عن القضايا الأولى، إلا في ما يتعلق بالأسلوب مما يدخل في دائرة المرونة العملية، بينما ندرس بعض التنازلات في القضايا الأخرى، في ما لا يمسّ الجوهر. وتلك هي دائرة الواقعية التي يمكن أن يتحرك فيها الإسلاميون، أمام الطروحات التي تقدم إليهم لإنهاء النزاع، أو لإيجاد موقف مشترك مع الآخرين في بعض المراحل السياسية في ما يطلب فيه تجميد الصراع في وقت معين مع بعض الجهات، أو إيجاد حالة من الوفاق السياسي أمام بعض الشعارات أو ما إلى ذلك، مما قد يفيد الحركة الإسلامية في مواقعها السياسية أو الجهادية ولا يضرّ مرتكزاتها ومسلّماتها الأساسية.

ولعلّ من الضروري للإسلاميين أن يدقّقوا في الساحة التي يمكن لهم أن يقدموا فيها التنازلات للآخرين في القضايا الصغيرة التفصيلية، فقد لا يكون الظرف ملائماً لذلك، لأن الانعكاس الذي يتركه على القاعدة الشعبية قد يكون سلبياً، مما يمكن أن يؤدي إلى إضعاف المعنويات السياسية من دون ثمن كبير يحصلون عليه في مقابل ذلك. وقد تكون بعض المواقع في دائرة المكان غير ملائمة لذلك، بينما تكون المواقع في دائرة أخرى وفي أمكنة أخرى ملائمةً جدّاً.

إنّ ما نريد التأكيد عليه هو أن تكون الحسابات دقيقةً، بحيث لا تخضع للحالات العاطفية أو الانفعالية، حتى لا يكون الخطأ كبيراً أو مميتاً في نتائجه السلبية.

وعلى ضوء ذلك، فإن على العاملين في حقل التربية الإسلامية، أو الدعوة الإسلامية، أن يضعوا هذه السورة في البرامج التربوية التي يدرسها الجيل المسلم، ليحفظوها وليفهموها وليلتزموا مضمونها الحيّ في أفكارهم وأخلاقهم، لتكون التنشئة التربوية مرتكزةً على قاعدة الإصرار على الالتزام بالخطّ المستقيم وعدم الانحراف عنه لقاء أيّ عرضٍ للتنازل من أيّة جهةٍ كانت، ولتكون الدعوة الإسلامية متحركةً في خطِّ الثوابت العقيدية والمصيرية بكل استقامة وثباتٍ.

ـــــــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:8، ص:655.

(2) نقلاً عن تفسير الميزان، ج:20، ص:434.