تفسير القرآن
الهمزة

 الهمزة
 

سورة الهمزة
مكية، وآياتها تسع
 الآيات 1-9

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية تمثل نموذجاً من الناس الذين يطغى عليهم الغنى، ويرتفع بنظرتهم إلى نفوسهم، حتى يخيّل إليهم أنهم في الدرجة العليا التي لا يبلغها أحد، فينظرون إلى مَنْ دونهم من الفقراء نظرة استعلاءٍ، ويكثرون من الطعن فيهم بالكلمات السيئة التي تنال منهم، وتؤذيهم وتسيء إلى كرامتهم وأعراضهم، بإظهار عيوبهم والإكثار من سبّهم، ويرون أن ذلك من حقوقهم الطبقية في ما تفرضه من سحق نفسيتهم وإذلال مواقعهم. وكانت هذه السورة تسجيلاً للنظرة الإلهية إليهم، فقد أنذرهم الله بالويل، وعرّفهم بأن المال لن يمنحهم خلوداً في الحياة، ولن يمنع عنهم الموت، فسيموتون كما يموت الناس، وستتحطّم كل هذه الكبرياء في نار جهنّم التي يُنبذون فيها نبذ الكلمات المهملة، وسيحترقون بها في ظاهر أجسادهم، باطنهم، وسيُربطون بالعمد الممدّدة، وستطبق عليهم فلا تفتح لهم ليخرجوا منها، لأنهم سيخلدون فيها بالعذاب، بدلاً مما كانوا يأملونه من الخلود في النعيم.

* * *

السورة تؤكد على رفض المال كقيمةٍ مهمّةٍ

وإذا كان القرآن يقدّم هذه الصورة الأخروية للمصير الذي يلقاه هؤلاء، فإنّ الهدف منها هو أن يرتدع الناس عن الأخذ بما أخذوا به في سلوكهم العملي الاستكباري على أساس المال الذي يجمعونه ويعدِّدونه، وليعرفوا أن المال لا يمثّل قيمةً إنسانية، بل هو مجرد حاجة دنيوية يحصلون عليها من أجل تلبية حاجاتهم الغذائية والسكنية والكسائية وغير ذلك، فلا يمنح الإنسان ارتفاعاً في حجمه الإنساني، ولا يزيد في عمله ووعيه وانفتاحه على الآفاق الرحبة في الحياة، إلاّ إذا استعمله في الغايات الكبيرة الإنسانية التي تتّصل برعاية المحرومين وإعانتهم على سدّ حاجاتهم الطبيعية. وبذلك، يتحوّل المال إلى وظيفة عملية في نطاق مسؤوليته الإنسانية التي تتسع وتكبر كلما اتسعت إمكاناته، ليكون ذلك أساساً للانفتاح على الجانب الإنساني في آلام الفقراء، بحيث يحدث ذلك تفاعلاً بينه وبينهم، في ما يمكن أن يساهم في إيجاد حالةٍ من الاحترام لظروفهم الخاصة التي لا تسيء إلى مكانتهم الإنسانية، ما يجعل من هذا النوع من العلاقات القائمة على رفض اعتبار المال أساساً للقيمة الرفيعة أو القيمة السفلى، مدخلاً إلى تصحيح النظرة، مما لا يوحي للأغنياء بانتقاص الفقراء لأجل فقرهم، كما لا يوحي للفقراء بالانحطاط الإنساني أمام الأغنياء لأجل غناهم.

ـــــــــــــــــ

الآيــات

{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتي تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} (1ـ9).

* * *

معاني المفردات

{لِّكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَة}: الهمزة: الكثير الطعن على غيره بغير حق، العائب له بما ليس بعيب. واللمزة: العيب، والهمزة واللمزة بمعنى، وقيل: بينهما فرق، فإن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب، واللمزة الذي يعيبك في وجهك. وقيل: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير برأسه ويومىء بعينه.

{لَيُنبَذَنَّ}: ليقذفنَّ.

{مُّؤْصَدَةٌ}: مطبقة.

* * *

جمع المال لا يخلد الإنسان في الدنيا

{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} والمعنى، ويلٌ للإنسان الذي يعيش مع الناس ليطعن فيهم بمختلف وسائل الطعن في كرامتهم، فيسيء إليهم بذكر عيوبهم بغير حق، أو بنسبة العيوب التي لا وجود لها في واقعهم الذاتي الأخلاقي. إن الله ينذره بالويل الذي يصرخ في وجدانه ليعرّفه قدره ومصيره عنده.

{الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} حتى بلغ الحجم الكبير الذي يرتفع به في حساباته الذاتية إلى المستوى الرفيع في الوضع الطبقي. وربما أدّى ذلك إلى الاستغراق في النتائج العملية التي تحدث له من خلال المال، بحيث يشعر بأن من الممكن أن يحقق له حمايةً من الموت.

{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} لأنه يلبِّي له الكثير من حاجاته الحياتية، فيخيّل له أن من الممكن أن يلبي له الحاجة إلى الخلود في الدنيا، ولكنه يعيش الوهم الكبير في ذلك، لأن المال قد يلبي بعض حاجات الحياة، ولكنه لن يمنح الحياة نفسها، أو الامتداد فيها.

{كَلاَّ} إن الله يرفض هذه الظنون الخيالية التي تضخم للإنسان شخصيته ليتحول إلى حالة انتفاخيّة في أجواء الكبر والاستعلاء، كما يرفض هذا الإنسان نفسه في عقليته وسلوكه، لأنه يسيء إلى الناس..

{لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} التي تحطِّم كل كيان الإنسان الذي يدخلها، لأنها تحرق كل شيء فيه. وهكذا يتحوّل مصير هذا المخلوق المستكبر المحتقر للآخرين ممن هم دونه مالاً، إلى أن ينبذ في النار كما تنبذ الأشياء الحقيرة التي لا غنى فيها. {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} فهي من المفاهيم التي قد يدرك الإنسان معناها اللغوي في ما توحي به من معنى الموقع الذي تتحطم الأشياء فيه، ولكنه لا يدرك حقيقته الواقعية في وجوده الفعلي.

{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} التي أوقدها الله وأشعلها لتكون محرقةً للكافرين والمستكبرين والطاغين. {الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ} فتنفذ إلى داخل الإنسان لتحرقه، كما تطل على الظاهر لينال عذابه. والمراد بالأفئدة القلوب، وربما كان هذا كنايةً عن الكيان الإنساني الداخلي إمعاناً في صورة العذاب التي تحتوي الكيان كله.

{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي مغلقةٌ مطبقةٌ لا تسمح لأحد منهم بالخروج إلى خارجها للابتعاد عنها والنجاة منها. {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} قيل إنها أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. وقيل: هي عمد ممدّدة يوثقون فيها مثل المقاطر، وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص وغيرهم.

وهذه هي الصورة البائسة التي يعيش فيها هؤلاء الأغنياء الطغاة الذين استكبروا على رسالات الله، فكفروا بها، وكذبوا الرسل الذين جاءوا بها، وعلى الناس فأساءوا إليهم وأذلّوهم بمختلف الوسائل التي يملكونها. إنها صورة المصير الذليل الذي يريد الله أن يقدّمه إليهم وإلى الذين يريدون أن يقتدوا بهم، ليتراجعوا عن ذلك، فينفتحوا على الله، وعلى الجانب الخيّر من الحياة، في ما يؤكده الله من السير على الصراط المستقيم في ذلك كله.