تفسير القرآن
العصر

 العصر
 

سورة العصر
مكية، وآياتها ثلاث
 الآيات 1-3

في أجواء السورة

وهذه السورة القصيرة في كلماتها، الكبيرة في معانيها، تلتفت إلى الزمن كله الحاوي للإنسان كله، ليمنحه الفرصة الواسعة التي تدفعه إلى الفلاح في الدنيا والآخرة. ثم توجه الإنسان إلى أن الخسارة سوف تحيط به من كل جانب، إذا لم يأخذ بأسباب الربح التي تؤكد له حركة إنسانيته في اتجاه بناء الحياة على الحق في عمق وحيه الفكري والعملي، في الانفتاح على الله في خط الإيمان والعمل الصالح، في ما يمكن للإنسان أن يأخذ به في حياته الفردية في ذاتية الروح الإيمانية، وفي خصوصية فكره وشعوره، وفي حركية الإيمان في خطّه العملي في ما يمثله العمل الصالح، وفي التعمّق في المسؤولية الاجتماعية التي تلتقي عند الحق عندما يضعف تأثيره في الواقع بفعل التيارات المتنوعة التي تملك القوّة المادية، فتحيط بالحق لتضغط عليه بمختلف الضغوط وأقساها، لتضعف تأثيره في نفوس أصحابه، فيتواصون بالحفاظ عليه والالتزام به والإصرار عليه. وتلتقي عند كل أوضاع الحرمان ومواقع الالام التي قد تدفع المؤمنين إلى السقوط تحت تأثير ذلك كله. وربما ينفرد الطغاة بجماعةٍ هنا ليسلّطوا عليها كل العذاب، وبجماعةٍ هناك، ليطبقوا عليها بكل الحرمان، ليسقطوا بفعل الضعف الغريزيّ الإنسانيّ، فيتواصون بالصبر ليشد بعضهم بعضاً، ويقوّي بعضهم بعضاً، ليستمروا على الإيمان والعمل الصالح، فتستمر الحياة على الخط المستقيم.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصوا بالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} (1ـ3).

* * *

معاني المفردات

{وَالْعَصْرِ}: قيل: إن المراد بالعصر عصر النبي(ص)، وهو عصر طلوع الإسلام على المجتمع البشري وظهور الحق على الباطل.

وقيل: المراد به وقت العصر، وهو الطرف الأخير من النهار، لما فيه من الدلالة على التدبير الرباني بإدبار النهار وإقبال الليل وذهاب سلطان الشمس. وقيل: المراد به صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى التي هي أفضل الفرائض اليومية.

ولكن هذه الوجوه لا تنطلق من أساسٍ في اللفظ، في ما يمكن أن يتخصّص به المعنى ببعض خصوصياته التي تميّزه عن المعنى الآخر. والظاهر أن المراد به هو الدهر، لأنه المعنى الذي يتناسب مع المعنى الشمولي للإنسان الذي عاش مع الزمن كله، وكان الزمن يمثل المسؤولية الشاملة في كل القضايا المتصلة بالحياة كلها؛ والله العالم.

* * *

إن الإنسان لفي خسر

{وَالْعَصْرِ*إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} لأن الأساس في مسألة الربح والخسارة أنهما معادلتان خاضعتان لأسباب معينة، فمن لم يأخذ بأسباب الربح، التي ترتفع به إلى المستوى الأعلى، أو المستوى الجيّد في كل حسابات الحياة المنفتحة على القيمة الكبيرة في الجانب المعنوي في مصير الإنسان، فلا بد له من أن يقع في قبضة الخسران الذي يمثل السقوط إلى هاوية الانحطاط إلى الدرك الأسفل. وهكذا يعيش الإنسان الخسارة إذا لم يلتزم بالعناصر الحيّة التي جعلها الله أساس الفلاح في الدنيا والآخرة.

* * *

الإيمان والعمل الصالح أساس النجاح

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} وهذان هما العنصران اللذان يمثلان القيمتين الكبيرتين في الجانب الوجداني للإنسان في دائرة فكره وشعوره، وفي الجانب الحركيّ في دائرة حركته في الخطّ العملي من حياته. فالإيمان هو الحالة الفكرية المنطلقة من قناعات الإنسان في حقائق الكون، المنفتحة على الله من خلال حركة عقله الذي يتأمل في أسرار الكون، ليكتشف الله من خلالها باعتبار أنه خالق الكون ومدبّره، ويتأمّل في كيان الإنسان وحركته في الوجود، فيجد الله في كل خفقة من قلبه، وفي كل هزةٍ من شعوره، وفي كل نبضة من حياته، وفي كل نعمةٍ داخليةٍ مما تختزنه ذاته، وفي كل نعمة خارجية مما تحيط بوجوده وتتحرك فيه، وذلك باعتباره الخالق المنعم الذي لولاه لما كان الوجود ولما استمرت حركة الإنسان فيه، أمّا العمل الصالح، فهو الإيمان المتجسد بكل معانيه وإيحاءاته وخطواته في الواقع، لأنه ليس مجرد فكرةٍ في العقل، أو خفقةٍ في القلب، أو حركةٍ في الشعور، بل هو موقفٌ ينطلق من فكرة، وفعلٌ يتحرك من إحساس، وحركةٌ تتجسد في واقع.

وبذلك، لا ينفصل العمل عن الإيمان، ولذلك يأخذ منه ملامحه ومعناه، فالإيمان بالله لا يتمثل بكل عمل كيفما كان، بل يتمثل بالعمل الصالح الذي يرضاه الله ويحبه، ليكون مظهراً للإخلاص له تعالى، في العبادة وفي الموقف وفي الانتماء، لتكون الحياة كلها لله في حركة الإنسان المؤمنة المسؤولة فيها.

* * *

العمل الصالح تجسيدٌ للإيمان

وفي ضوء ذلك، فإنّ الإنسان لا يعيش الاثنينيّة في الإيمان والعمل الصالح، بل يعيش الوحدة العميقة المتجسِّدة في معنى واحد، لأن الثاني نتيجةٌ للأوّل، بل هو تجسيدٌ له، فالإيمان بالله يوحي للإنسان بالشمولية التي تتّسع للكون كله، لأنه خَلْقُ الله الذي تتمثل فيه قدرته وحكمته وتدبيره، وهو ـ بعد ذلك ـ المسؤولية التي يحسّ بها بكل كيانه في إحساسه بعبوديته لربّه، فيجد نفسه مسؤولاً عن أن يتعبد له في روحه وفي قلبه وفي عمله، فيعرف أن الخلق كلهم عيال الله، فيعمل على أن يجعل حياته بركةً ومنفعةً وخدمةً لهم في كل أمورهم، ليحصل ـ من خلال ذلك ـ على أن ينال الدرجة العليا في محبة الله له، لأن أحبّهم إليه أنفعهم لعياله.

ثم يلتقي الإيمان والعمل الصالح في وحدة القيم الروحية والأخلاقية على صعيد السلوك الفردي الذاتي والسلوك الجماعي، في ما يمكن أن يكون أساساً للتعاون على بناء الحياة على البر والتقوى والابتعاد بها عن الإثم والعدوان، في ما يرضاه الله للإنسان من الأعمال التي تقوم على أساس عناوين الرحمة والمحبة والخير والصدق والأمانة والعفّة والسخاء والتواضع، وغير ذلك، مما يحقق للحياة توازنها، ويحلّق بالروح في آفاق الكمال، ويمنح الإنسانية صفاء الحق وإشراقة العدل وخطّ الاستقامة.

إن هاتين الكلمتين تختصران الرسالات كلها في ما انطلقت فيه من الدعوة إلى الإيمان بالله الواحد، والاستقامة على هذا الخط التوحيدي في الإخلاص لله بالعبادة والطاعة، والابتعاد عن الشرك كله، وعن الانحراف كله.

وهكذا يستقيم للإنسان الفرد الفلاح الدنيوي، لأن الإيمان والعمل الصالح يمثلان المصالح الحقيقية للإنسان في الدنيا، كما يستقيم له الفلاح الأخروي، لأنهما يتحركان في الخط المستقيم الذي يؤدي به إلى مواقع رضى الله في آفاق طاعته.

* * *

التواصي بالحق

{وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ} وهذه هي الصفة الأولى التي تثبت الخط المستقيم في قيمة الفلاح الاجتماعي، عندما تهتز الأرض من تحت الحق، ويبدأ الزلزال النفسي والفكري والشعوري ليدفع الناس إلى التساقط أمام الأهواء الجامحة والزخارف الخادعة، والأفكار الضالة، والعقائد المنحرفة، والسياسات الخائنة، لأن التهاويل المخيفة والأشباح المرعبة، والطرق الملتوية، والظلمات الدامسة، تطوّق الواقع كلّه، حتى لا يكاد الإنسان يبصر طريقه، أو يتعرف على ملامح الحق في دائرة الوضع. ويبقى كل فرد مع نفسه حائراً خائفاً متزلزلاً، وتتحول الجماعات إلى مِزَق متناثرة لا تركن إلى وحدةٍ في الفكر وفي الموقف. وهنا تأتي هذه القيمة الاجتماعية التي يتحرك فيها المؤمنون العاملون بالصالحات للتواصي بالحق، ومن مواقع الإيمان والصلاح، للدعوة إلى الالتزام به، بعد أن عرفوا فيه المصلحة الحقيقية للإنسان، كما عرفوا فيه مواقع رضى الله، سواء كان الحق حقاً في العقيدة، أو في الشريعة، أو في العلاقات، أو في المناهج، أو َفي السياسة، أو في الاقتصاد والاجتماع، أو في السلم والحرب، ونحو ذلك، حتى يثبت الناس على الفكر الحق، وعلى وعي الحق، وعلى الانفتاح على كل مواقعه على صعيد النظرية والتطبيق، ليبقى الالتزام به السمة البارزة للمجتمع المؤمن، الذي يوحد الفكر والموقف والنظرة إلى الأشياء على أساس الحق، فلا يعيش المؤمنون الانحراف عنه باسم الاستقامة، ولا يختلط عليهم الحق بالباطل، ولا يتحركون في خط الازدواجية الفكرية عندما تتحرك الأفكار في خطين متوازيين أو متناقضين، مما يؤدي إلى ازدواجية الشخصية أو انفصامها. وهذا ما يقوّي أهل الحق في موقفهم، وفي إصرارهم على الثبات، وفي استمرارهم على الخط.

* * *

التواصي بالصبر

{وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} والتواصي بالصبر، يمثل العنصر الثاني للفلاح للمجتمع المسلم الذي يواجه الضغوط الصعبة التي تضغط على حريته وعزّته وصلابته في موقعه، وذلك من خلال القوى الداخلية العاملة لمصلحة الكفر والاستكبار، والقوى الخارجية العاملة لاحتواء الأمة الإسلامية في دائرة مصالحها وتحويلها إلى أمّة ضعيفة لا تملك أيّ موقع للثبات والتوازن في تأكيد شخصيتها المستقلة، لتكون مجرد هامشٍ من هوامشها السياسية التي تحارب معها من أجل الحفاظ على مصالحها. وبذلك، تحاول كل هذه القوى أن تصادر كل وسائل القوّة وكل مواقعها، من أجل أن تمنع عملية صنع القوّة في خطط التكامل السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والعسكري، لأن المطلوب هو المنع من بناء القاعدة القوية الثابتة التي يرتكز عليها البناء الفوقي. وقد يكون من الطبيعي أن تشتدّ الضغوط، وتكثر المشاكل، وتهتز الأرض تحت أقدام العاملين في سبيل الدعوة إلى الله، والمجاهدين في سبيله، وتتعمّق الآلام، وتضعف النفوس، ويصاب المؤمنون بالزلزال النفسي الذي قد يتأثر ـ بشكل سلبيّ ـ بالزلزال السياسي والعسكري والاقتصادي، فتنطلق نقاط الضعف لتعمل عملها في إعداد المجتمع للسقوط تحت تأثير الروحية المنهارة في داخل عقلية الهزيمة.

وهنا يأتي دور الصبر الذي هو من عزم الأمور، باعتبار أنه يمثل القوّة الداخلية التي تتمرد على قساوة الضغوط ومرارة الآلام وضراوة التحديات، فلا تصرخ ولا تهتز ولا تنهار، بل تبقى هادئةً واعيةً لكل ما حولها ومن حولها، مطمئنةً إلى مواقفها، منطلقةً إلى أهدافها، عارفةً بأن هذه المعاناة هي جزءٌ من الثمن الذي يجب أن يدفعه الدعاة والمجاهدون في سبيل الله، وهي نوعٌ من البلاء الذي ينزله الله على عباده الصالحين، ليختبرهم، وليمتحنهم، حتى يؤكد صدقهم في التجربة، وإخلاصهم في حركة المعاناة. ولن يكون ذلك إلا بالصبر الجميل الذي يشدّ أعصاب الإنسان ومشاعره إلى الثبات على الموقف.

* * *

بالصبر نواجه حالات الاهتزاز

وإذا كانت المسألة مسألة الضعف الخفيّ أو البارز الذي يثيره الأعداء بوسائلهم الخاصة في روحية الأمة، فلا بد من مواجهتهم بالوسائل الإيمانية التي تمنعهم من إيجاد حالة الاهتزاز في أفراد الأمة، وذلك بالتواصي بالصبر الذي يقدّم الوصية بالأسلوب العاطفي الذي يعالج المشاكل النفسية المعقّدة، وبالأسلوب الفكري الذي يحلّل الأمور المثارة بطريقة عقلانية، وبالدراسات السياسية والاجتماعية، وبالشعارات الإسلامية ـ الروحية، أو السياسية، وبغير ذلك من الوسائل والأساليب والأفكار التي توحي بأن الصبر لا يمثل موقف ضعفٍ بل موقف قوّة، كما أنه لا يتمثل بالموقف الخاسر، بل هو موقفٌ رابحٌ، لأن المشكلة في كثير من الأجواء النفسية، أنها قد تتعقّد وترتبك من خلال ارتباك المفاهيم، أو التطبيقات في داخلها، مما لا يكون التواصي بالصبر أمامها، مسألة بسيطةً، لأن حلّ التعقيدات النفسية أكثر صعوبة من حلّ التعقيدات الفكرية، ما يفرض على العاملين في هذا الاتجاه أن يكونوا واعين للمشكلة في داخلها، وفي ما حولها، أو في من حولها، ليستطيعوا الوصول إلى النتائج الحاسمة على هذا الصعيد.

وهكذا تبقى هذه السورة برنامجاً عمليّاً للخط الذي يتحرك فيه الفلاح للفرد والمجتمع في عدة نقاط، تمثل الدائرة الواسعة التي ينطلق فيها المؤمنون، هي الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. وقد يكون من المفروض للعاملين الحركيين الإسلاميين، أن يحوّلوا هذه النقاط إلى برنامج حركيّ، تدخل فيه التفاصيل والمفردات التي تفتح للفرد المسلم وللمجتمع المسلم أكثر من نافذةٍ على قضايا الحياة التي تؤدي بالإنسان إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.