تفسير القرآن
التكاثر

 التكاثر
 

سورة التكاثر
مكية، وآياتها ثمانية
الآيات 1-8

في أجواء السورة

لقد استغرق المشركون في هذه الذهنية المتخلفة التي ترى في كثرة العدد قيمةً كبيرةً في ميزان التفاضل، فاندفعوا فيها بحيث ألهاهم ذلك وشغلهم عما ينفعهم في الحياة.. وتطوّر بهم الأمر إلى أن بدأوا في عدّ الموتى في القبور ليكملوا عدد الأحياء بالأموات، حتى تتحقق لهم الأكثرية على غيرهم. ولكنّ الله يرفض ذلك ويهدّدهم بأنهم سيعلمون علم اليقين ماذا يحصل لهم من خلال ذلك، وسيرون الجحيم في وضوح بارزٍ لا مجال فيه لأي التباس كما لو كانت عين اليقين، وسيُسألون عن النعيم الذي أفاضه الله عليهم فلم يشكروه.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (1ـ8).

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان في سبب نزول هذه السورة، «قيل: نزلت السورة في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، عن قتادة. وقيل: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا، عن أبي بريدة. وقيل: نزلت في حيٍّ من قريش بني عبد مناف بن قصي وبني سهم بن عمرو تكاثروا وعدّوا أشرافهم، فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا: نعدُّ موتانا حتى زاروا القبور فعدّوهم، وقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية، عن مقاتل والكلبي»[1].

* * *

الكثرة ليست قيمة

{أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ} عن ذكر الله، وعن التفكير بواجباتكم في ما كلّفكم الله من مواقع طاعته ورضاه، فاستغرقتم في تعداد الأحياء والأموات.

{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} التي تحوي موتاكم من الآباء والأجداد ممن احتواهم العدم، فلم يعد لهم أيّ أثر في الحياة، ليزداد بهم الأحياء عدداً.

إنها العقلية المتخلّفة التي تبحث عن الكمّ ولا تبحث عن الكيف، فترى في تكاثر الأرقام العددية قيمةً وميزةً عن الآخرين. ولكن الله لا يريد لهم ذلك، لأن القيمة كل القيمة، هي في ما يقدّمه الناس على مستوى الفرد أو الجماعة من أعمال صالحة كثيرة، لتكون الكثرة مشتملةً على المضمون الرسالي الذي يغني تجربة الحياة في حركة المسؤولية التي تبني للإنسان قاعدته الفكرية والعملية على أساسٍ من رسالة الله المتحركة في خطّ طاعته، بينما تكون الكثرة الفارغة من المضمون أو المشتملة على المعنى الشرّير، عبئاً على الحياة، وسبباً لسقوطها في مهاوي الانحطاط الروحي والأخلاقي.

وهذا هو ما أكّده القرآن في أكثر من سورةٍ، في أن الكثرة المجرّدة لا تعني الحق، وأن القلّة لا تعني الباطل، فربما كان أكثر الناس لا يعلمون ولا يفقهون، وقد يكون أكثرهم كافرين أو فاسقين. ووجّه الخطاب إلى النبي بأن لا يطيع أكثر من في الأرض، لأن ذلك قد يكون سبباً في الإضلال، وهذا ما ينبغي للإنسان العاقل الواعي أن يلتزمه كخطٍّ لحركة القيمة الإنسانية في الحياة، بأن ينظر إلى عمق المعنى الإنساني، لا إلى السطح من مظاهره، لأن القضية هي قضية المضمون لا قضية الشكل، ولأن العظمة هي في الحق مهما كان حجمه صغيراً، في مقابل الباطل، حتى لو كان حجمه كبيراً، فإن العظيم هو ما عظّمه الله، والحقير هو ما حقّره.

ولهذا كان القرآن يستهدف التوبيخ على هذا السلوك الساذج الذي شغل هؤلاء فيه بالتكاثر، بحيث كانوا يجمعون الأرقام مهما كانت، بقطع النظر عن فاعليتها وحيويتها وحركيتها في الواقع.

* * *

رفض هذا المبدأ الباطل

{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فليس الأمر كما زعمتم، فإن هناك مستقبلاً غامضاً يتصل بمسألة المصير الأسود الذي تقبلون عليه من خلال استغراقكم بالتفاهات الفكرية والسلوكية التي قد تشغلكم عن مسؤولياتكم الشرعية، وتبعدكم عن الله، وسوف تصلون إلى الدار الآخرة حتى تعلموا الحقيقة الصارخة هناك التي تحدّد للإنسان مصيره من خلال طبيعة عمله. {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ويتكرر الرفض للموقف الذي وقفوه، ويتأكد الوعد المستقبلي بانكشاف الحقائق التي تحدد لهم وضوح الرؤية للأمور.

{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} وهذا هو الرفض الثالث الذي يطلق التمني في الفرضية التي تطلّ بهم على الحالة التي يملكون فيها علم اليقين الذي لا يدخله أيّ احتمال مضادٍّ، بل هو النور كله الذي لا شائبة فيه لأيّة ظلمة، فلو حصل لهم مثل هذا العلم، لارتدعوا عن كثيرٍ من المواقف التي يقفونها، والمواقع التي يتحركون فيها، ولابتعدوا عن الطريق التي يسلكونها، ولانطلقوا ـ بدلاً من ذلك ـ في المواقف التي ترضي الله، والمواقع التي تنفتح عليه، والطريق التي تؤدي إليه ـ سبحانه ـ، لأنهم ـ من خلال علم اليقين ـ سوف يرون النتائج الصعبة أمامهم، وجهاً لوجه {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} كما لو كانت أمامهم في لهيبها وحريقها وعذابها وزقّومها وحميمها.

{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي اليقين نفسه، وذلك بمشاهدتها عياناً، حيث تنطلق المعرفة من خلال الحس، لا من خلال الصورة الذهنية، فلا يبقى هناك أيّ مجالٍ للريب، ولو بنحو الاحتمال، لأن الحقيقة تفرض نفسها على الحسّ والوجدان.

* * *

ثم لتسألن يومئذ عن النعيم

{ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} في ما توحي به الكلمة من كل الخيرات التي أفاضها الله على الناس في الدنيا من كل ما يعيشون فيه مما يمثل ضرورات وجودهم، ومن كل ما يقبلون عليه أو يستمتعون فيه مما يمثل حاجاتهم الحسيّة، في ما يشتهون ويتلذذون، ومن كل ما ينفتحون عليه من الأمور المعنوية التي تجلب لهم السعادة، وتوحي لهم بالارتياح والطمأنينة والكرامة. فلكل واحد من هذه النعم المادية والمعنوية سؤالٌ طويلٌ، لا يتصل بالنعمة نفسها في ما امتنّ به الله على الإنسان، بل يتصل بالمسؤولية التي تتحرك النعمة في داخلها في المضمون الشرعي للأفعال التي تلتقي بها، وفي خارجها في النتائج التي تترتب عليها، ليطيع الإنسان ربه في تحريكها في الدوائر التي حددها الله له، فيستعملها في ما أعدت له في النظام الذي وضعه الله للحياة، حيث تتحول المفردات العملية إلى مسؤوليات شرعية، سواءٌ في ذلك النعم المادية التي جعل الله فيها حقوقاً للفرد والجماعة والحياة من حولهما، أو النعم المعنوية المتمثلة في الحياة والعلم والإرادة والرسالة التي أنزلها الله على رسله، مما أراد للخلق أن يتحملوا مسؤوليته في ما يحركونه في نفع الناس فيها، وفي ما يلتزمونه من السعي إلى بناء الحياة على خط طاعة الله ورضاه من خلالها. وهذا هو السؤال الكبير الذي يتوجّه إلى الناس ليحدِّد جوابهم مصيرهم نحو الجنة أو النار.
ـــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:10، ص:811.