تفسير القرآن
القارعة

 القارعة
 

سورة القارعة
مكية، وآياتها إحدى عشرة
الآيات 1-11

في أجواء السورة

ويبقى للقيامة دورها الكبير في مسألَتَي الإيمان والالتزام، لأنها هي التي تلاحق الإنسان في مشاعره الروحية والمادية، فتقرع إحساسه وتهزّه بحقيقتها الصارخة، وتحرّك مخاوفه بأهوالها المرعبة. وهذه السورة المكية، تقدم الصورة السريعة لأجواء القيامة، القارعة التي يتحوّل فيها الناس إلى ما يشبه الفراش المنتشر في الجوّ، وتتحوّل الجبال إلى ما يشبه الصوف المنتوف، ويقف الناس ليواجهوا النتائج من خلال الميزان ـ الحق، الذي يزن الأعمال في ما يمثل ذلك من قيمة الناس، فمن كان ثقيل الميزان، في ما قدّمه من الأعمال الصالحة التي تعطي ثقلاً للحياة، فسيلقى عيشةً راضيةً، وأمّا من كان خفيف الميزان، في ما لديه من تاريخ الأعمال الصالحة، فلم يحقِّق للحياة أيّ عطاءٍ مما يرضاه الله، فسيصلى النار الحامية.

وهكذا تختصر السورة الموقف في طبيعته ونتائجه، ليعيش الناس الجوّ الرهيب في صورته الأخروية، ليهزّ الوجدان في الوحي الذي يثيره في الذات في الواقع الدنيويّ، لتنفتح ـ من خلاله ـ على خط المسؤولية من أوسع الآفاق.

ـــــــــــــــــــ

الآيــات

{الْقَارِعَةُ* مَا الْقَارِعَةُ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ* يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ* فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} (1ـ11).

* * *

معاني المفردات

{الْقَارِعَةُ}: البليّة التي تقرع القلب بشدّة المخافة.

{الْمَبْثُوثِ}: المنتشر.

{كَالْعِهْنِ}: العهن: الصوف.

{هَاوِيَةٌ}: من أسماء جهنّم، وهي المهواة التي لا يدرك قعرها.

* * *

ما القارعة؟

{الْقَارِعَةُ} التي تقرع السمع بصوتها الشديد، والقلب بزلزالها الذي يزيد في خفقانه. {مَا الْقَارِعَةُ} في معناها المتحرك في الواقع المتمثل في الحدث البارز الذي يهز الحياة من حوله. وليس السؤال للاستفهام، بل هو لتوجيه الأنظار إلى التفكير بها. ويتجدد السؤال في صيغةِ التهويل والتفخيم: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} هل تدرك طبيعتها وضخامة الحدث الكامن فيها ونتائج الأوضاع المتحركة فيها، كيف يكون الناس في داخلها، وكيف تكون الأرض في بداياتها؟

* * *

أحوال الناس يوم القيامة

{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} المنتشر المتطاير في الفضاء الذي يتجه في كل اتجاهٍ باحثاً عن قوّته، وعن مواقع سلامته، وقد يصطدم بالنار فيحترق فيها. وهكذا يكون حال الخلق يوم القيامة عندما يعيشون الذهول والحيرة والرعب، فيتحركون هنا وهناك، باحثين عن السلامة في غير وعيٍ، لضخامة الهول الذي يواجهونه في مستقبل أمرهم، فيتساقط الكثير منهم في النار كما يتساقط الفراش فيها عندما يتجه إليها من دون شعور.

* * *

تغيّر معالم الكون يوم القيامة

{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} أي الصوف المندوف الذي تفرقت شعراته عن بعضها البعض. وهكذا تتحلل الجبال في ذرّاتها الصخرية والترابية، فتتطاير في الفضاء عندما تذروها الرياح، في الصورة الهائلة التي توحي بالتغيير الكبير الذي يتساقط فيه النظام الكوني، ليفسح المجال لعالم جديد، كان غيباً في الذهنية الإنسانية، فتحوّل إلى حسٍّ يشاهده الناس ويتحركون فيه، ليواجهوا قضية مصيرهم في ما ينتظرهم فيه من مواقع وأوضاع، حيث يحدّد لكل إنسان نهايته الخالدة في الجنّة أو في النار.

* * *

جزاء العمل الصالح

{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} وهو الذي عاش في الحياة الدنيا في مواقع الإيمان بالله والعمل الصالح على خطّ الرسالة، فكانت حياته حركةً في طاعة الله في كل ما يتصل بأقواله وأفعاله وعلاقاته بالآخرين وتطلّعاته إلى الأهداف الكبيرة التي يرضاها الله للإنسان في الحياة، ما يرفع مستواها ويوجهها إلى العمل الجادّ في تحريك الحياة في سبيل الله، وفي مواقع رضاه. وبذلك، تثقل أعماله من خلال حجمها الكبير في مضمونها وفي نتائجها، فيثقل ميزانه في يوم القيامة، عندما توضع الموازين القسط التي تعمل على تقويم الشخص من خلال عمله، ليكون الإنسان مساوياً لعمله، بدلاً مما كان عليه في الدنيا عندما كانت قيمته تساوي وزنه المادي.

وإذا وضع الإنسان في الميزان المعنوي، وكان ثقيل الميزان، فإن المستقبل الأخروي سيكون عظيماً على مستوى نتائج الثواب الإلهي للمتقين.

{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} في طبيعتها، وفي ما تشتمل عليه من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلتذ به الأعين، وترتاح إليه القلوب، من النعم الحسيّة والروحية، بحيث يعيش الإنسان معها الرضى بكل معانيه وبكل تطلعاته.

* * *

جزاء العمل العابث اللاّهي

{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وهو الذي عاش الحياة عبثاً ولهواً واستغراقاً في شهواته ولذاته، وإخلاداً إلى الأرض في كل أوضاعها المادية، فلم يرتفع إلى مواقع السموّ في آفاق الروح، ولم ينفتح على الله في آفاق المسؤولية، فلم يحصل على أيّ عملٍ مسؤولٍ يحقّق له رضى الله، وإذا كان له هناك من عملٍ، من هذا القبيل، فهو عملٌ خفيفٌ، على الهامش الصغير من حياته، ولذلك، فإنه لا يملك أيّ وزن للقيمة في ميزان التقويم الأخروي عند الله سبحانه، وهذا هو الذي يجعل الجزاء في صورة العمل. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} والأمّ هي الحضن الذي يأوي إليه الولد ويرجع إليه، وقد استعيرت الكلمة للداخل إلى النار التي عبّر عنها بالهاوية، باعتبار أنه يهوي ويسقط إلى أسفل سافلين، كما كانت هي مرجعه ومأواه.

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ} فإذا كانت الكلمة غامضةً في مدلولها التطبيقي بحيث تدفع إلى التساؤل المثير، أو تبتعد عن الوحي الذاتي للإنسان لطبيعتها ليكون بحاجةٍ إلى التوضيح والتفسير، فإن الآية التالية توضّحها، فلا تترك هناك أيّ التباسٍ حولها {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي شديدة الحرارة، بحيث تحرق الذين يدخلونها في كل ما يتحرك فيها، أو ينطلق منها من اللهيب المشتعل.

* * *

الإنسان بين خياري الجنة والنار

وهكذا تضع السورة الإنسان أمام الطريق الذي يؤدي إلى الجنة إذا آمن وعمل صالحاً، ليستعدّ لذلك قبل أن تفوته الفرصة بانتهاء عمره، وأمام الطريق الذي يؤدي به إلى النار، ليبتعد عنها، قبل أن تطبق عليه الأجواء التي تحيط به، في ما يثيره أهل الكفر والضلال من حوله، وليعيش في عمق الذهنية الإسلامية الواعية، مسألة التقويم الحقيقي للإنسان في قضية مصيره، من خلال ثقله وخفّته في ميزان الأعمال، بعيداً عمّا هي مسألة القيمة في مجتمع الدنيا الذي يجعل التقويم الإنساني خاضعاً للمال أو للجاه، أو للقوة أو للنسب في ما يتنافس فيه الناس من قيمٍ ماديةٍ في أكثر من صعيد.