تفسير القرآن
الزلزلة

 الزلزلة
 

سورة الزلزلة
مدنية، وآياتها ثمان
 الآيات 1-8

في أجواء السورة

وهذه من السور التي تثير الإحساس بالهول في التغيّير الكوني الذي يحدث للأرض في المرحلة التي تسبق القيامة، فهناك الزلزال الذي يهز كل جوانبها، فتنفتح ـ بشكل كامل شامل ـ على كل ما تختزنه من أثقال، ولا سيّما الأجساد البشرية المدفونة فيها.

وهنا يتساءل الإنسان، بعد أن تدبّ فيه الحياة ويعود إليه الوعي: ما لها؟ في تساؤلٍ يحمل الدهشة والحيرة والخوف والرعب. وهناك يأتيه الجواب من أخبار الأرض الخاضعة لربها التي تبدأ بالحديث، بطريقةٍ خاصة، بأن ذلك وحيٌ من الله للأرض أن تنقاد لإرادته لما يريد بها من أوضاع وأحداثٍ.. وهكذا تبدأ القيامة في حركة الناس نحو الموقف؟ فمن يعمل صالحاً فسيرى الجنة في رضوان الله، ومن كان عمله شرّاً فسيرى نتائجه في دخول النار في آفاق غضب الله.

وهكذا تؤكد هذه السورة على أنّ العمل هو الأساس في مسألة المصير، فهو القيمة التي تحكم الإنسان في حركته في الدنيا، كما تحكمه في موقعه في الآخرة، ممّا يزيل من ذهنيته كل القيم الأخرى المنطلقة من النظرة المادية التي تجعل للمال وللجاه وللنسب ـ ونحو ذلك ـ موقع القيمة الكبيرة في الحياة.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا* وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا* يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا* يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ* فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (1ـ8).

* * *

معاني المفردات

{زُلْزِلَتِ}: الزلزلة: شدّة الاضطراب.

{أَشْتَاتاً}: متفرّقين.

{مِثْقَالَ}: وزن.

* * *

الهول العظيم

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} الذي يوحي بالهول العظيم، لأنّ الأرض في سهولها وجبالها ترتجف وتتصدع وتتساقط، وتفقد كل أثر للتماسك، فلا يبقى هناك جبلٌ شامخٌ في أرجائها، ولا يعود لها سطحٌ ممتدٌّ في أبعادها، ولا غطاءٌ لما في داخلها، فقد انكشفت انكشافاً كلّياً، فلا يخفى منها شيء {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} المخزونة فيها مما يثقل بطنها، سواءٌ من ذلك الناس الموتى المدفونون فيها، أو الأشياء الآخرى من المعادن والكنوز المخبوءة في داخلها. وبدأ الإنسان يسترد حياته ووعيه من خلال إرادة الله في البعث والبدء في حركة الدار الآخرة في حياة الإنسان، {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} ما لهذه الأرض ترتجف وتهتز فلا يتماسك منها شيء؟! إنه المنظر الهائل الذي لم يسبق له مثيل، فقد كان الزلزال الذي يتحرك بشكلٍ طبيعيٍّ من خلال العوامل المؤثرة في باطن الأرض، محدوداً بمنطقةٍ معينةٍ، قد يشتد فيها فيؤدي إلى الخراب، وقد يضعف فلا يُحدث شيئاً مهمّاً، أمّا هذا الزلزال، فإنه يشمل الأرض كلها، فهذا هو زلزالها العظيم، ويتمثل بالدمار الكامل، فماذا حدث للأرض، وما هي العوامل المؤثرة فيها، وهل هناك حدثٌ كونيٌّ جديدٌ؟ وتنطلق علامات الاستفهام الخائفة المذعورة التي تبحث عن جوابٍ ـ أيّ جواب ـ يفسّر الحدث الكبير من خلال آفاق المعرفة التي تتناول تفسير الأمور من الوجهة المادية في مفردات الواقع. ولكن الجواب ينطلق من الأرض نفسها فيما تطلق من أخبارها.

* * *

كيف تحدِّث الأرض

{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ولكن كيف هو الحديث؟ هل هو صوتٌ ناطقٌ، أم هو استعارةٌ للحديث المتمثل بحركة الصورة في الحسّ التي توحي بالصورة في الذهن، من خلال الدلالات أو الإيحاءات؟ ربما يثير البعض بأن هناك حياةً وشعوراً يسريان في الأشياء وإن كنّا في غفلةٍ من ذلك.

وهذا هو مدلول قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقوله تعالى: {قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصّلت:21]، إن الظاهر منها هو التسبيح الحقيقيّ، والنطق بالصوت المسموع، ولكننا ذكرنا في محله، أن الظاهر من التسبيح والنطق أنهما يصدران عن حياةٍ ووعي وحركةٍ في الفكر، وإرادةٍ في الذات، وهذا مما لا يتوفر إلا للأحياء العاقلين، ما يجعل ذلك قرينةً عقليةً على إرادة المعنى الكنائي الذي يشير إلى المعنى الواقعي من خلال صورة المعنى.

وهكذا يمكن أن يكون المعنى، أن أخبار الأرض تتحدث عن هذا الحدث الكوني الهائل العظيم، بأنه لا يصدر عن أسباب طبيعية كالتي اعتادها الإنسان في الظواهر الكونية العادية، بل يصدر عن إرادة الله بشكلٍ مباشرٍ، فهي تقول: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وحياً تكوينياً بأن تخضع لإرادته في زلزالها الذي يشمل كل مواقعها، وفي إخراج أثقالها منها، لأن القيامة قد قامت، ولأن ساعة الحساب قد جاءت، ولأن الناس مدعوّون إلى الوقوف بين يدي الله.

* * *

تفرّق الناس يوم القيامة وحسابهم

{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} متفرقين لا تجمعهم وحدةٌ مما كانوا يجتمعون عليه في الدنيا، لأن الموقف دقيق، وقد أخذ من عقولهم ومشاعرهم كل مأخذٍ، فهم مهتمون بالمصير الحاسم، ولا يعرفون ماذا يراد بهم، لأن المسألة خاضعة لطبيعة أعمالهم، فهم ذاهبون إلى الموقف الحق في حيرةٍ وترقبٍ، {لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} في ما يعرض عليهم منها في كتاب الأعمال، ليتذكر من كان ناسياً كيف كان عمله في الدنيا، ولتقوم الحجة على الجميع، لأن الإنسان مربوطٌ بعمله، فالعمل هو صورة المصير، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} من خيرٍ {خَيْراً يَرَهُ} في ما يتمثل به خير الآخرة من رضوان الله ونعيمه في جنته، {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} من شرّ {شَرّاً يَرَهُ} في ما يتمثل به شرّ الآخرة من غضب الله، وعذابه في نار جهنم.

* * *

بين العمل والذرّة

وإذا كان الله يتحدث عن الذرّة كأصغر شيءٍ في ميزان التقدير، وهي الهباءة التي ترى في ضوء الشمس، أو هي أصغر من ذلك، في ما اكتشفه العلم من الشيء الذي لا يُرى ـ في ما يقال ـ حتى بأعظم المجاهر في المعامل، بل هي شيء رآه العلماء في ملاحظاتهم في عقولهم من خلال آثارها.

إذا كان الحديث عن العمل الذي لا يُرى إلا بجهدٍ كبير، كما هي الذرّة في معناها المألوف، فإن القضية التي يوحي بها هذا التعبير، أن علة الإنسان التدقيق في طبيعة الخير ذاته، وفي مختلف تجلّياته ومقاماته، في الفكر وفي النبضة والخفقة واللمسة واللفتة والكلمة والممارسة، حتى تكون كل المناطق الصغيرة الخفية في كيانه خيراً كلها، ليكون الخير جزءاً من ذاته في جانب الإحساس وفي جانب الفكر، وفي دائرة العمل، والأمر عينه في ما يخص مسألة الشر، أي التدقيق فيه، طبيعةً وحركةً وتجلياتٍ، لتجنّبه وتفاديه.

فإذا عرف الإنسان ذلك كله في رضوان الله وسخطه، فلا بد له أن لا يستهين بحسنةٍ صغيرةٍ، لخفة وزنها المادي في ما هو مقياس ضخامة الأشياء، ولا يستصغر خطيئةً صغيرة لصغر حجمها، في ما هو التقدير للحجم المادي للأمور، وقد ورد الحديث المأثور: «لا تستصغرنّ حسنة تعملها فإنك تراها حيث تسرك ولا تستصغرن سيئة تعمل بها فإنك تراها حيث تسوءك»[1]، لأن المسألة هي في النتائج الروحية التي تحسن أو تسيء لإنسانية الإنسان، أو في النتائج العملية التي تحسن أو تسيء إلى الحياة كلها، وإلى الإنسان في ذاته، أو في ذات الآخرين، وتلك هي القيمة الحقيقية للإنسان الذي يساوي في قيمته عمله، على مستوى الدنيا والآخرة، فلا قيمة له بدون ذلك.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) البحار، م:25، ج:70، ص:417، باب:137، رواية:65.