تفسير القرآن
البيّنة

 البيّنة
 

سورة البيّنة
مدنية، وآياتها ثمان
الآيات 1-8

في أجواء السورة

تباينت الآراء حول كون هذه السورة مدنية أو مكية، فمن قائل بأنها مدنية لقربها من السور المدنية، وذلك من خلال الإشارة إلى أهل الكتاب الذين لم يكونوا مشكلةً للإسلام وللدعوة الإسلامية في المرحلة المكية، ومن خلال الإشارة إلى الزكاة التي جاء التشريع بها في المدينة، إلى قائل بأنها مكيةٌ، من خلال الحديث فيها عن بعض جوانب العقيدة وهي الرسالة، ولا مانع من ذكر الزكاة وأهل الكتاب لورود الزكاة في بعض السور المقطوع بمكيتها، كما أن هناك وجوداً جزئياً لأهل الكتاب في مكة وفي المنطقة.

وخلاصة الحديث في السورة هي عن البينة التي كان يلهج بذكرها أهل الكتاب والمشركون من العرب، الذين كانوا يكفرون برسول الله، ويؤكدون أنهم خاضعون لها إذا جاءت، لأنهم يبحثون عن القناعة المرتكزة على قاعدةٍ أو حجةٍ، وقد جاءهم رسول الله الذي بعثه الله ليقدم لهم البيّنة الواضحة في الكتاب الذي يحمله ويبلّغه للناس والذي يتضمن الحجة، كل الحجة، في ما يشتمل عليه من الكتب القيّمة، ولكن القوم، في أكثريتهم، لم يكونوا طلاب بيّنةٍ، بل كانوا يقدِّمون الطروحات المطلوبة، حتى إذا جاءتهم تنكّروا لها بألف طريقةٍ وطريقةٍ. وهذا ما نراه في تاريخ أهل الكتاب الذين تفرقوا شيعاً وأحزاباً وطوائف متعددة بعد أن قامت عليهم الحجة من الله، في ما قدمه الله لهم من كتبٍ ودلالات، وأرسله إليهم من أنبياء، ما يفرض عليهم الوحدة من خلال الأسس التي ترتكز عليها الرسالات.

وقد أمرهم الله في الكتاب الذي أنزل عليهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، حنفاء، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك هو الدين القويم الذي هو دين إبراهيم، فلماذا لم ينطلقوا معه في حركةٍ منسجمةٍ صحيحة؟.

وتؤكد السورة، في نهايتها، على أن الكافرين بالدعوة الإسلامية من أهل الكتاب والمشركين، هم شرّ البريّة، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية، وأن الله سيقدّم لهم الجزاء العادل، جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، انطلاقاً من خشيتهم لله، الذي يرفع الذين يخافونه ويعملون على الانضباط العملي في خط التقوى القائمة على الخوف منه سبحانه وتعالى.

ــــــــــــــــ

الآيــات

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ* رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ* وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ* جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} (1ـ8).

* * *

معاني المفردات

{مُنفَكِّينَ}: الانفكاك: الانفصال من شدة اتصال.

{الْبَيِّنَةُ}: الحجّة الظاهرة.

{قَيِّمَةٌ}: القيّمة: المستمرّة في جهة الصّواب.

{حُنَفَآءَ}: الحنيف: المائل إلى الصواب والحقّ.

{الْبَرِيَّةِ}: الخليقة، الناس.

* * *

الرسول يتلو بيّنة الله على المشركين وأهل الكتاب

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ} ممّن رفضوا دعوة الرسُل وأنكروا نبوّتهم، فكانوا كفاراً بالرسول وبالرسالة {مُنفَكِّينَ} أي منفصلين عن موقفهم الكافر {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} وهي الحجّة القائمة على إثبات حقيّة الرسالة والرسول. وربما كان الجوّ الذي يعيشه هؤلاء هو جوّ التبرير لإصرارهم على الدين القويم في صورته التي يتمثلونها في طريقتهم الخاصة ووضعهم المعقّد. ولكن كيف يسألون ذلك، في الوقت الذي تتمثل البيّنة أمامهم مجسدةً في النبي محمد(ص)، وفي الصحف المطهرة التي يحملها، ليقدم للناس ما تشتمل عليه من كتب قيِّمة؟ {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ} وهو محمد(ص) {يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً}وهي الصحف القرآنية التي تتضمن أصول العقيدة، وأحكام الشريعة، ومناهج الحياة التي يرضاها الله، وحجج الفكر التي تؤكد حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ولعلّها الكتب الرسالية التي جاء بها الأنبياء السابقون، في ما حدّث الله في القرآن عن صحف إبراهيم وموسى، وفي ما تحدّث عنه من التصديق لما بين يديه من الكتب مما نقله عن الإنجيل وغيره.

ولعلّ دراستنا للأوضاع التي عاشها أهل الكتاب في التمزق الطائفي أو المذهبي الناشىء من التنافس على النفوذ، ومن المطامع الذاتية التي تؤدي إلى البغي والبغضاء والعداوة الحاقدة ، تؤدي بنا إلى النتائج الحاسمة، وهي أنّ المسألة لم تكن لديهم ـ في الغالب ـ مسألة طلب للحق، بل كانت مسألة تبرير للموقف، وقفزٍ على المواقع المتعددة، للدخول في تكلف التفسير، وفي تعقيد الأمور، بحيث تفقد الكلمة وضوحها وصفاءها، من خلال التهاويل التي يثيرونها حولها.

* * *

تفرق الذين أوتوا الكتاب بعدما جاءتهم البيِّنة

{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ولم يتوحّدوا بالكتاب، وقد أنزله الله ليؤكد لهم الحقيقة الإيمانية الواحدة المنفتحة على الإله الواحد، لبناء الأمة الواحدة التي تتمثل وحدتها في وحدة العقيدة والشريعة والمنهج وخطّ السير في اتجاه الهدف الكبير الواحد، لأنهم لم ينطلقوا من الشعور العميق بالحاجة إلى المعرفة، والارتباط بالإيمان، بل انطلقوا من حساباتهم الذاتية التي تبحث عن العقيدة في الفكرة البسيطة، وعن الصعوبة في المرتقى السهل، لأنّ ذلك هو الذي يثير المزيد من التعقيدات، ويدفع إلى الكثير من المشاكل، وذلك هو الذي يغذي لهم أطماعهم في حركة الذات نحو أطماعها المادية.

ولم يكن تفرقهم ناشئاً من السعي نحو الوصول إلى رضى الله على طريقتهم الخاصة، على أساس الموقع الاجتهادي الذي توصلوا إليه في فكرهم، بل كان ناشئاً من البحث عن مواقعهم الخاصة التي يريدون أن يمنحوها عنوان الكتاب، لتأخذ قداسةً غير واقعيةٍ عندما تنتمي إلى قداسة الكتاب.

* * *

العبودية لله: خلاصة الرسالات

{وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فهذا هو عنوان الكتاب كله، والدين كله، وهو خلاصة الرسالات، أن يعبد الناس الله عبادةً يخلصون فيها للدين الذي فرضه، فيطيعونه في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، ويوحّدونه في ذلك كله، {حُنَفَآءَ} مائلين عن خط الباطل إلى خط الاعتدال والتوازن، في ما هو خط الاستقامة على النهج الذي أراد من الناس أن ينهجوه في تصوراتهم، وفي انفعالاتهم، وفي أقوالهم وأفعالهم. {وَيُقِيمُواْ الصَّلاةَ} التي تعبّر عن إخلاص القلب والروح والوجه واللسان والكيان كله لله وحده، {وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ} كتعبيرٍ عن روحية العطاء المفتوح على كل حاجات الناس، المتفاعل مع آلامهم وآمالهم، في ما تمثله الزكاة من إنفاق المال في سبيل الله في مواردها المشروعة قربةً إلى الله.

* * *

ذلك دين القيّمة

{وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} أي الكتب القيّمة أو الشريعة القيّمة. قال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن هذا، فقال: القيّمة جمع القيِّم، والقيّم والقائم واحد، فالمراد: وذلك دين القائمين لله بالتوحيد[1]، وإذا تحدثنا عن التوحيد، فإننا نتحدث عن العقيدة التي تربط الإنسان بكل أحواله الخاصة أو العامة بالله، بحيث لا يتحرك إلا من خلاله، ولا يسكن إلا بأمره، وهو الذي يختصر العقيدة كلها، والشريعة كلها في كلمة واحدة هي كلمة: «ربنا الله» ثم الاستقامة على هذا الخط.

وبذلك يفترق الناس في الموقف والمصير على أساس التزامهم بالخط وابتعادهم عنه. وهذا هو أساس التقييم القرآني لهم، في من هو الشرّير، وفي من هو الخيّر، وفي من هو في النار، أو في الجنة.

* * *

جهنم دار الكافرين والمشركين

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} لأنهم واجهوا الرِّسالة الإلهية بمنطق الاستهزاء والتمرّد والتكذيب من دون حجّةٍ لهم في ذلك، وإذا كانوا يؤمنون بالله، فإن ذلك لا يكفي في وجود المضمون الروحي الطيّب الذي يتعمق في شخصياتهم، لأن التوحيد يمثل سرّ الإيمان، وهذا ما يفقده المشركون، كما أن الإيمان بالرسالة يمثل العمق الإيماني والامتداد العملي للارتباط بالله، وهذا ما يفقده أهل الكتاب والمشركون... كما أنّ هناك إيحاءً بالكفر بنعمة الله، والاستكبار على الخضوع له في مواقع رسالته وطاعته، ولذلك كانوا شر البرية إن قمّة الشرّ أن يتمرد الإنسان على ربه الذي أنعم عليه ورعاه في كلّ حياته التي كانت نفحةً منه.

* * *

الجنة دار المؤمنين الصالحين

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّاِلحاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} لأنهم كانوا في موقع الجدّية في مواجهة الحقيقة، في ما هو الفكر والسلوك، كما كانوا في موضع الشكر لله في نعمه، فكان الإيمان مظهر خضوع وشكرٍ لله، وكان العمل بالصالحات تجسيداً، دليل روحية الخير في نفوسهم، باعتبار ما يمثله ذلك من الانسجام مع الخطِّ المستقيم في الحياة المنفتحة على مواقع أمر الله ونهيه، ولذلك كانوا خير البريّة، لأن قمّة الخير هي أن ينقاد الإنسان لربه لتكون حياته العقلية والعملية مرتبطةً بربه، كما كان وجوده في بدايته واستمراره مربوطاً به. وهذا هو الخير، كل الخير، الذي يتمايز الناس به.

{جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} لأن ذلك هو وعد الله لعباده المؤمنين العاملين بالصالحات، الذين عاشوا الجهد كله الذي واجهوه بالصبر القاسي الشديد في نتائجه السلبية على حياتهم ونوازعهم الذاتية، طلباً لما عند الله، وهذا هو المظهر الحيّ لرضى الله الذي يناله الذين يعيشون في حياتهم الخضوع المطلق له، والانفتاح الروحي والعملي عليه، {رِّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بإيمانهم به وطاعتهم له، {وَرَضُواْ عَنْهُ} في ما افاض عليهم من نعمة الوجود وفي ما منحهم من نعمه الظاهرة والباطنة في كل تفاصيل حياتهم.

{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} الذي هو التجسيد الحيّ للروح الخاشعة الواعية المطمئنة إلى ربها من خلال معرفتها به، المتحركة في خطّ الطاعة. وبذلك، لا يكون الخوف من الله حالةً انفعاليةً، بل هي حالةٌ عقلانيةٌ تدرس كل شيءٍ في نطاق ارتباط الوجود كله بالله، في جميع الأمور، كما تدرس النتائج المصيريّة في ثواب الله وعقابه في موقف الحساب في الدار الآخرة.

ــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:10، ص:794.