تفسير القرآن
التين

 التين
 

سورة التين المقدمة الآيات 1-8
سورة التين
مكية، وآياتها ثمان

في أجواء السورة

وهذه من السور المكية التي تطوف بالإنسان في بعض نماذج خلق الله التي تتميّز ببعض الخصائص المميزة التي تدعوه إلى التأمّل في نعم الله التي أضفاها عليه، لجهة تأمين ما يشتهيه من غذاء وغيره، أو لجهة الرسالة وحركة الرسل، لتطلّ بعد ذلك على حقيقة وجودية في الإنسان، الذي هو الموجود الحيّ المخلوق، ليؤدي هذه الرسالة، وليبلِّغها ويعمل بها، فقد خلقه الله {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في بنيانه الجسدي الذي تستقيم كل أعضائه وأجزائه في تناسقٍ بديع متقن، ليكون ذلك أساساً لاستقامته في فطرته وعقله وشعوره ليسير إلى الطريق القويم. ثم ردّه {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} عند بلوغه العمر الأرذل الذي لا يعلم فيه من بعد علمٍ شيئاً، ما يوحي بالتسافل في وعيه وعمله، باعتبار أن للإنسان في خلقه جانباً مادياً يتصل بجسده، في ما هو العلو والسفل، وجانباً معنوياً يتصل بروحه في ما هي الاستقامة والانحراف. لكن {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} يبقون في حال الارتفاع من خلال ما يمنحهم الله من أجرٍ لا ينقطع، فكيف يكذِّب الإنسان بالجزاء الذي هو المظهر الحيّ لحكمة الله في حكمه في عالم التكوين وفي عالم التشريع؟! وبذلك تطل السورة على مسألة البعث في مقام الإيحاء على أساس الإشارة إلى الجزاء.

ــــــــــــــــــ

الآيــات

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الاَْمِينِ* لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمنُونٍ* فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (1ـ8).

* * *

نعم الله المادية والروحية

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} الظاهر من هاتين الكلمتين اللتين أقسم الله بهما، أن المراد بهما، الفاكهتان المعروفتان المتميزتان بخصائص غذائية ومذاقية معينة، تجعلهما في موقع الإبداع من خلق الله، وفي موقع النعمة من نعم الله. وقد جاء في بعض التفاسير، أن المراد بهما شجرتا التين والزيتون، وقيل: المراد بالتين الجبل الذي عليه دمشق، وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، وقيل: إن المناسبة في إطلاق الفاكهتين على الجبلين باعتبار أنهما منبتاهما، ولعلّ القسم بهما لكونهما مَبْعَثَي جمٍّ غفيرٍ من الأنبياء.

وربما كان هذا التوجيه ناشئاً من محاولة إيجاد نوعٍ من التناسب بين هاتين الكلمتين وبين الكلمتين التاليتين، ولكن ذلك خلاف الظاهر في طبيعة مدلول الكلمتين. وقد لا يكون هناك أيُّ ابتعاد عن التناسب في الجمع بين هاتين الفاكهتين اللتين تمثلان موضع نعمة الله المادية، كما هما الكلمتان التاليتان اللتان تمثلان منطلق نعمة الله الروحية. والله العالم.

{وَطُورِ سِينِينَ} وهو جبل سيناء الذي كلَّم الله تعالى فيه موسى بن عمران(ع).

{وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} وهو مكة التي جعلها الله بلداً آمناً، كما جاء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]. وفي دعاء إبراهيم(ع)، كما حكى الله عنه في القرآن: {رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَدًا آمِنًا}[البقرة: 126].

* * *

خلق الإنسان في أحسن تقويم

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} في بنيانه الجسدي الذي تقوم به حياته، ويثبت به وجوده. وإذا كان الله يتحدث عن الجانب المادي الذي يتمثل به الكيان الجسدي، في ما يرتفع به إلى المستوى الأحسن الذي يوحي بالمستوى الأفضل والأرفع، فلا بد من أن يكون الحديث عن ذلك مدخلاً إيحائياً للاستعداد الإنساني الذي يملكه الإنسان في عقله وروحه وشعوره وحركته للارتفاع بعمله للوصول إلى المستوى الأرفع في السموّ الروحي، ليكون الاَحسن في التقويم الروحي، وهذا ما نستفيده ـ إيحائياً ـ من الحديث عن الجزاء، أو عن يوم الجزاء الذي يمثِّل مستوى التفاضل في المصير.

* * *

ردّ الإنسان أسفل سافلين إلاّ المؤمنين

{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} في جسده، كما في عقله، ووعيه الذي يبدأ في التنازل كلما تقدم به العمر، ليكون على نسق قوله تعالى: {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} [يس:68]، أو قوله تعالى: {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج:5]، وقد يستفاد منه، إيحائياً، الدرجة الروحية السفلى التي قد يصل إليها الإنسان عندما يعيش أرذل الوعي وأسفل الشعور، في ما يتمخّض عن ذلك من الانحطاط العملي الذي يؤدي به إلى الانحراف عن الله. وهنا يكون الاستثناء في الآية التالية متصلاً، وربما يكون منقطعاً إذا لاحظنا المعنى الحرفي للكلمة، في ما يوحي به من المعنى المادي للجسد.

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير منقوصٍ في احتمالٍ، وغير مقطوع، في احتمالٍ آخر، أو غير محسوبِ، أو غير مكدّرٍ بما يؤذي.

* * *

الله أحكم الحاكمين

{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} والظاهر أنه خطاب للإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم ثم ردّه أسفل سافلين، في نطاق الخطة الحكيمة في خلقه وفي تدبير أمره الذي يوحي بأن الله لا يمكن أن يهمل عباده من دون أن يجعل لحياتهم هدفاً، ولدنياهم آخرةً، انطلاقاً من حكمته في خلقه المتمثلة بكل شيءٍ في الوجود، فلا مجال فيه للعبث أو للفوضى أو للصدفة، فكيف يمكن أن يكذب بالجزاء في يوم القيامة، أو يكذب بيوم القيامة؟ وهل ذلك إلا إبقاء الحياة كلها في دائرة العبث؟ وما هي الأسس التي يرتكزون عليها في تكذيبهم؟

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فهو الذي ينطلق في حكمه من خلال حكمته في تدبيره، ما يجعل الحكم خاضعاً للعمق العميق للمصلحة، وللعدل والإتقان، فيمنح المطيع ثوابه، والعاصي عقابه، لأن العدل يفرض ذلك، ولأن الحكمة توحي بذلك.