تفسير القرآن
الضحى

 الضحى
 

سورة الضحى المقدمة الآيات 1-11
سورة الضحى
مكية، وآياتها إحدى عشرة

في أجواء السورة

يذكر المفسرون أن الوحي قد احتبس عن النبي مدّةً، فقال المشركون: إن ربّه قد ودّعه وقلاه، ولو كان رسولاً لما احتبس عنه، فنزلت هذه السورة. وقيل إن المسألة قد حدثت في المدينة، فتساءل المسلمون عن ذلك، ولكن الجوّ أقرب إلى الجوّ المكّي.

وكانت هذه السورة لتفتح قلبه على محبة الله له، الذي آواه ورعاه وحماه وهداه وأغناه، فلا تضطرب مشاعره، ولا تختنق روحه، بل يبقى في حالة الصفاء الروحي، كصفاء الضحى في إشراقه، وفي حالة الهدوء الرائق الشفاف، كهدوء الليل الساجي، وليعرف أن الله عندما يختار رسوله للدعوة إليه، فإنه لا يودّعه ولا يبغضه، لأنه لم يختره للرسالة إلا من خلال اطلاعه على قابليته وإمكاناته الروحية التي تجعله مؤهّلاً لمحبة الله وانفتاحه عليه واعتماده على دوره، لأن اختيار الله عبداً لرسالته ليس أمراً طارئاً خاضعاً لمرحلةٍ زمنيةٍ معيّنة، بل هو أمرٌ ثابت في صلاحية الرسول وحاجة الحياة إلى الرسالة.

وتبدأ السورة بعد ذلك لتذكّر النبي بأن الجهد الذي يبذله في سبيل الدعوة، والعناء الذي يعانيه، لا يمثّلان أيّة مشكلة صعبةٍ في ثبات قراره على الاستمرار مهما أثار المشركون والمنافقون من التهاويل حوله، لأن الله قد أعطاه في الآخرة من علوّ الدرجة ما لم يعط أحداً من عباده وسيزيد في عطيته بما يرضيه.

ثم يذكّره بطفولته عندما كان يتيماً فآواه، ولم يسمح لليتم أن يشرّده، وبشبابه عندما كان ضالاً لا يعرف الطريق إلى الرسالة، فهداه وأرسله برسالته، وبأوضاعه المادية الصعبة عندما كان فقيراً فأغناه، وعرّفه بأنه لا بد من أن يستوحي ذلك في تعامله مع اليتيم، فلا يقهره بالكلمة والممارسة، لأنه عاش المشاعر الحساسة لليتم، ويعرف مدى حاجته للكلمة الحلوة، ومدى تأثير الكلمة القاسية القاهرة في إحساسه الرقيق، وفي تعامله مع السائل الذي يدفعه فقره إلى السؤال، فلا ينهره، لأن ذلك الأسلوب القاسي الفظّ في التعامل معه يرهق روحه، ويُسقط كرامته، وفي انفتاحه على نعمة ربه ليتحدث إلى الناس عنها في أسلوب الشكر، وفي حركة الطاعة.

وإذا كان لهذه السورة علاقةٌ بالواقع الذي كان يعيشه النبي(ص) في احتباس الوحي عنه، ما جعل المشركين يشمتون به ويتحدثون عنه بطريقة غير مسؤولة، فإنها قد توحي للدعاة من بعده بأن لا يسقطوا أمام الشدائد التي تضغط عليهم، والكلمات التي تسيء إليهم، وأنَّ عليهم أن يفكّروا بالآخرة لا بالدنيا، ليمتد شعورهم بالرضوان الإلهي هناك بدلاً من أن يفكروا بالمشاكل المحيطة بهم هنا. كما أن عليهم أن يتذكروا نعمة الله عليهم في ما أولاهم من نعمه، وفي ما أنقذهم من الشدائد التي كانت تثقل عليهم، ليكون سلوكهم مع الفئات الفقيرة أو الضعيفة، سلوكاً رسالياً، لا يتنكر لليتيم، ولا يتعالى على الفقير، بل ينفتح على كل هذه الفئات الاجتماعية من خلال مسؤوليته الروحية والأخلاقية في خط الرسالة.

ـــــــــــــــــــــ

الآيــات

{وَالضُّحَى* وَالليْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى* وَلَلاَْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاُْولَى* وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1ـ11).

* * *

معاني المفردات

{سَجَى}: سكن وهدأ.

{قَلَى}: بغض.

{عَآئِلاً}: فقيراً.

{تَنْهَرْ}: نهره وانتهره بمعنى، وهو أن يصيح في وجه السائل الطالب للرفد.

* * *

الضحى والهدوء النفسي

{وَالضُّحَى} وهذا القسم بالضحى يمثل معنى إيحائياً، من خلال ما يريد إثارته من الأجواء الرقيقة في المشهد الرائع الذي يمثله الإشراق الكوني في الصفاء المنساب مع حبات النور التي تحمل الدفء، ولكنها لا ترهق الكون والإنسان بالحرارة الشديدة التي يحملها وقت الظهيرة.

{وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى} في ما يوحي به سجوّ الليل، وهو سكونه، عندما يتقدم فيغشى الكون بظلامه، فتهدأ الحركة، وتنام العيون، ويسهر الحالمون، ليستغرقوا في ضباب الأحلام السعيدة المنسابة مع تطلّعات النفس إلى المستقبل الحالم الجميل، فتصفو الروح، ويهدأ الجسد، وترتاح المشاعر من حالة التوتر التي تثيرها الضوضاء، وتلتقي الأفكار الموحية المنفتحة على الكون كله بالمشاعر الصافية التي لا تلتقي إلا بالخير والمحبة والسلام.

ويريد الله من رسوله، الذي يحاول المشركون إثارة القلق في روحه وفي وجدانه، أن يتأمّل روعة الضحى في إشراقة الكون، وهدوء الليل في غفوة الظلام، ليعيش الهدوء النفسي والصفاء الروحي والسكون الوجداني، فلا يضطرب قلبه، ولا تتعقَّد مشاعره، لأن الله الذي أعطى الكون روحه في هدوء الضحى وسكون الليل، سوف يمنحه السلام الروحي الرائع في حركته في الرسالة.

* * *

ما ودّعك ربك وما قلى

{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} فالله عندما أوقف نزول الوحي عليك فترةً من الزمن، لم يتركك وحدك أمام النظرات الحاقدة أو الساخرة التي ينظر بها الكافرون إليك، ولم يرفع عنك ألطاف رعايته ورحمته المتمثلة برسالته التي اصطفاك لها، ولم تتحول محبته لك إلى بغضٍ، فأنت لم تبتعد عن عين رعايته، وعن موقع محبته، وعن فيوضات رحمته ورضوانه، في ما أولاك من نعمته في الدنيا، وما وعدك به من أفضل الخير في الآخرة، التي ستجد فيها ما يعوّضك عن كل الأتعاب التي عانيت منها في الحياة الأولى.

{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأوْلَى} لأن الآخرة مبنيةٌ على الخلود في نعيمها، أمَّا الأولى، فمبنيّةٌ على الفناء والزوال في كل لذّاتها وشهواتها، فلا قيمة لنعيم زائل، أمام النعيم الباقي.

* * *

ولسوف يعطيك ربك فترضى

{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} لأن الله لن يهمل أمر عبده ورسوله، ولن يتركه في حالة الحرمان، أو في متاهات الضياع، بل سيتعهده برعايته ولطفه، ليرضي قلبه برضوانه، ويشمل حياته برحمته. وما يصحّ بالنسبة إلى النبي(ص) يصح بالنسبة إلى كل الدعاة الرساليين العاملين في خطِّ النبوة والهداية إلى الله تعالى. فالله سبحانه وتعالى، يريد كذلك من الشخصية المؤمنة أن تكون الراضية المرضيّة، لتكون العلاقة بينها وبينه علاقة الرضى المتبادل والمحبة المشتركة.

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} فقد عشت اليتم المزدوج من الأب والأم، وكنت كأيِّ يتيمٍ من هذا النوع، معرّضاً للتشرّد والضياع، وللجوع والحرمان، ولكن الله أحاطك بعنايته، ورعاك بلطفه، فهيّأ لك المأوى الذي يضمّك بعطفه وحنانه، حتى نشأت نشأةً طبيعيةً من دون أيّة مشكلةٍ مما يعانيه الأيتام من مشاكل كبيرة.

{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى} فقد انطلقت في الحياة من الواقع الرسالي الذي يحدد للناس طريقهم المستقيم، ويبتعد بهم عن الانحراف والضياع. وبذلك كان الضلال لا يمثل السير في الخطّ المضادّ للهدى، أو المنطلق مع الانحراف، بل يمثِّل فقدان الخط الذي يحدد نقطة البداية والنهاية في ما هو خط السير، فرعاك الله بهدايته في ما ألهمك من الرأي السديد، ومنحك من الفكر العميق وأنزل عليك من رسالته.

* * *

الله المغنـي

{وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى} أي فقيراً لا مال لك، وهذا هو معنى العائل، فقد كنت لا تملك أيَّ مصدرٍ من مصادر المال، ولكن الله هيَّأ لك الغنى، بما أعطاك من أسباب الرزق، وذلك من خلال زواجك بخديجة بنت خويلد التي كانت تملك المال الوفير فوهبته لك.

وهكذا رأيت صنع الله بك، ورعايته لك، وعطفه عليك، لتنفتح على مشكلة اليتيم العميقة في داخل وعيه ونظرته البائسة المشفقة إلى الحياة من خلال الخوف الذاتي الناشىء من فقدان الحضن الذي يوحي إليه بالشعور بالقوّة، ويمنحه الإحساس بالثقة، وابتعاد أجواء العطف والحنان عنه، ما يجعل إحساسه قلقاً حائراً يبحث عن الكلمة الحلوة، ويتعقَّد من الكلمة الشديدة القاسية.

* * *

معاملة اليتيم

وهذا هو الذي يُفرَضُ عليك في ممارستك للعلاقة مع اليتيم، وفي ما توصي به الناس من ذلك، عندما يعيش اليتيم بينهم، ويحتاجون إلى مخاطبته والتعامل معه، فعليهم أن لا يسيئوا إليه بالكلام الشديد القاسي {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} لأن ذلك يجرح مشاعره، ويسقط روحه، ويضاعف من حزنه، ويدفعه إلى الشعور بالضياع، ويعقِّد شخصيته ونظرته إلى الناس من حوله، فلا بد من الكلمة الحانية والبسمة الحلوة، والنظرة الهادئة المشرقة، واللمسة اللطيفة التي تدفع بالبسمة إلى شفتيه، وبالإشراقة إلى عينيه، وبالطمأنينة إلى قلبه، وبالثقة إلى روحه، وبالثبات في خطواته، ليعود إنساناً فاعلاً واثقاً بنفسه، مطمئناً إلى قوته، مرتاحاً إلى غده، ليشارك في حركة الحياة مع الذين يتحركون فيها من أجل تطويرها إلى الأفضل، وتحريكها نحو الأقوى والأحسن والأجمل.

* * *

معاملة السائل المحروم

{وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} لأنَّ السائل لا يصدر في سؤاله إلاَّ عن حاجة وحرمان، في ما يفرضه ذلك من ظروفٍ قاسيةٍ صعبة، ما يترك تأثيراً سلبياً على نفسه وعلى مجمل حياته، ويملأ مشاعره بالضعف، ولذلك، فلا بد من مراعاة ظروفه النفسية في ما يراد مواجهته به من الكلمات والممارسات، بالابتعاد عن أساليب الشدّة والقسوة والغلظة، والانفتاح على الأجواء اللطيفة الحلوة التي تحترم إنسانيته إذا لم تحلّ مشكلته وتقضي حاجته، فقد عشت ـ يا محمد ـ وعاش أمثالك من الفقراء، كل مشاكل الفقر وآلامه، وكل نتائجه السلبية النفسية، ما يجعل التفاعل بينك ـ أنت وأمثالك ـ وبين هؤلاء الفقراء من الذين يدفعهم الفقر إلى السؤال أو يضعهم في مواقعه، تفاعلاً عميقاً من خلال التجربة الحيّة في الشعور والموقف.

* * *

تذكّر نعمة الله

{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وذلك بأن تذكرها في مقام المقارنة بين الماضي الذي عشت فيه فقدان النعمة، وما ينتج عن ذلك من نتائج قاسيةٍ صعبة على واقع حياتك، وبين الحاضر الذي تعيش فيه حركة النعمة في حياتك، في نتائجها الإيجابية الكبيرة، لتذكر الله بنعمته، وتشكره على ما أولاك منها، فذلك هو التجسيد الحيّ للاعتراف بعبوديته، والخضوع لربوبيته، في إحساس الإنسان بالفضل الإلهي العظيم عليه في مواقع النعمة، كما هو الحال في شعوره بالعظمة الإلهية في مواقع العظمة، ليحس الإنسان بالخشوع والحاجة المطلقة إليه في كل حال، ليسير على خط طاعته في كل مجال.