تفسير القرآن
الفاتحة

الفاتحة
مكية وآياتها سبع
 
مدخل عام:
 
لعلّ قيمة هذه السورة تكمن في أنها تقدّم، في آياتها، تصوراً شاملاً لعلاقة اللّه بالإنسان وعلاقة الإنسان به من خلال صفاته ذات الصلة الوثيقة بهذه العلاقة المتبادلة، ليكون ذلك بمثابة الثقافة السريعة، والوعي المتحرّك في الوجدان الإنساني، كلما أراد تمثّل تصوّره العقيدي للّه، لتتوازن تصوّراته، ولتستقيم خطواته في هذا الاتجاه؛ فهناك الإطلالة بالفكر على كلّ آفاق الحمد في صفات اللّه وأفعاله، مما يتحسسه الإنسان في سرّ وجوده وحركته وعناصر شخصيته وامتداد حياته، مما يتمثّل فيه عظمة الخلق، وروعة النعمة، فيكون الحمد بكلّ إيحاءاته الفكرية والشعورية هو التعبير الصارخ لكلّ ما يحمله الإنسان من انفتاحٍ على مواقع الحمد للّه.
 
وهناك الربوبية الشاملة للعالمين التي يتطلع فيها الإنسان إلى اللّه في آفاق ألوهيته التي لا حدود لها، ليجده في مواقع الكون كلّه، في عوالمه التي لا حصر لها، فيتحسس موقعه كإنسان من بين هذه العوالم، ليجد التربية الإلهية تتعهده بالرعاية الكاملة من موقع القدرة المطلقة المنفتحة على آفاق الألوهية، وليشعر بالوحدة الوجودية في ظلال الربوبية مع كلّ العالمين، فلا يحس بأيّ انفصال عن حركة الكون من حوله.
 
وإذا كانت الكلمتان {اللّه} و {رَبِّ الْعَـلَمِينَ} تختزنان إيحاء قوّة العظمة، فإنَّ كلمتي [الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ] توحيان بالرحمة التي تلامس قلب الإنسان وروحه وكذلك كلّ حياته، لتنساب فيها محبةً وخيراً وطمأنينةً وسلاماً، فترتاح مشاعره لإيحاءات الرحمة في الوقت الذي تسمو فيه أفكاره إلى معاني العظمة، ثُمَّ تنقله الأجواء الإيمانية إلى عالم آخر، هو عالم الآخرة الذي يواجه فيه الجزاء العادل على أعماله الصالحة أو غير الصالحة في يوم الدين الذي يملكه اللّه، فله ـ وحده ـ السيطرة المطلقة فيه، في كلّ ما يتعلّق بالثواب والعقاب، والجنّة والنّار.. وبذلك تندفع مشاعر المسؤولية في كيان الإنسان لينطلق تصوّره للّه من خلال هذا الأفق الواسع الذي يثير في داخله الرقابة الإلهية الشاملة لتتوازن خطواته في المواقع التي تتوازن فيها أعماله.
 
وهكذا يكون التصوّر للّه في هذه الصفات الثلاث أساساً لحركة العقيدة باللّه في تفاصيلها الإيحائية التي تتحرّك في حياة الإنسان لتوجهه إلى عبادة اللّه، مِمّا تفرضه الربوبية الشاملة والرحمة الواسعة والمالكية المطلقة للمصير كلّه، وفيما هي الهيمنة كلّها على الكون كلّه، فيتوجه إليه ليعبّر عن خضوعه لعبادته بالمستوى الذي ينفتح فيه على توحيد العبادة، فلا يعبد غيره، ولا تكون المسألة مسألةً تقريريةً، بل هي مسألةٌ إقراريةٌ، لأنه يسجل على نفسه الاعتراف الحاسم بذلك بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
 
ثُمَّ يتطلّع إلى الوجود كلّه ليجد أنَّ اللّه هو القادر على كلّ شيء فيه، لأنه الخالق لكلّ الوجود، فكلّ مخلوق محتاجٌ إليه بفعل ارتباط وجوده به الذي يمثّل الفقر كلّه، ما يجعله عاجزاً عن إدارة شؤون نفسه، أو إدارة شؤون غيره إلاّ بإذنه، فهو المستعان، فلا يملك أحدٌ أن يحصل على العون إلاَّ بإرادته، وهو الكافي الذي يكفي من كلّ شيءٍ ولا يكفي منه شيء.
 
وهكذا ينطلق الفقر الإنساني في حاجاته الوجوديّة، ليصرخ، من موقع العقيدة المنفتحة على قدرة اللّه على كلّ شيء، بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ما يوحي بالتوحيد في الاستعانة، فلا استعانة للعبد إلاّ بربه الواحد في عمق المعنى، لأنَّ ما يقدّمه الآخرون من معونةٍ، فهو مستمدٌّ من اللّه.
 
وإذا كان اللّه هو المعين، فهو الهادي إلى سواء السبيل، لأن الهداية جزءٌ من معونته، يفتح بها قلب الإنسان وعقله على الحقّ، ويوجه حركته الاتّجاه السليم، في ما يوجهه إليه من رسالاته، ويلطف به من فيوضات ألطافه، ليهتدي بذلك كلّه إلى الطريق المستقيم الذي تتمثّل فيه كلّ نعم اللّه في وعي الحقّ المنفتح على كلّ قضايا العقيدة في الحياة، ويبتعد ـ من خلاله ـ عن كلّ الطرق المنحرفة التي تقوده في فكره وعمله إلى غضب اللّه، وعن كلّ المتاهات الفكرية والروحية والحركية التي تؤدي به إلى الضياع في صحراء الضلال على كلّ المستويات.
 
وهكذا تحدّد السورة للإنسان تصوّراته لربّه، في موقع الربوبية والرحمة والمسؤولية، والتزامه باللّه في موقع العبادة له والاستعانة به، وانفتاحه عليه، في الدعاء له بأن يهديه {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي يحصل من خلاله على محبته ورضاه وهداه.
 
وبذلك نجد في السورة الإطلالة الواسعة على الأجواء القرآنية الرحبة التي تضع هذه المبادىء عنواناً لها في الواجهة، لتكون آيات القرآن بمثابة التفاصيل لكلّ مفرداتها، ولذلك سميت بـ «أمّ الكتاب».
 
وربما أمكننا أن نختصر خطّها العام بتأكيدها على العقيدة والعمل اللذين تندرج تحتهما كلّ المفاهيم القرآنية في حركة الفكر والواقع في تفاصيل الآيات القرآنية المتصلة بالحياة الإنسانية في الواقع كلّه.
 
الآيــات
 
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَـنِ الرَّحِيم
 
{الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ} (1ـ7).
 
* * *
 
ذكر اللّه:
 
هل يُراد للبسملة أن تكون كلمةً قرآنيةً يردّدها المؤمنون في قراءتهم وفي ذكرهم التقليدي للّه، ثُمَّ لا شيء غير ذلك؟!
 
أم أنَّ هناك شيئاً أعمق من ذلك؟
 
ربما نحتاج إلى الدخول في رحاب القرآن لنستعرض الآيات الكثيرة التي تؤكد على مسألة ذكر اللّه في داخل حركة الزمن: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيل} [الإنسان:25] ليكون اسم اللّه هو ما يبدأ الإنسان به ويختم، كإيحاء بالشعور العميق بالزمن الذي ينفتح على اللّه، لينفتح الإنسان من خلاله على حركة المسؤولية في حياته. كما يؤكد عليها في الحالة الداخلية كوسيلةٍ من وسائل التفاعل مع المضمون الحيّ لاسم اللّه، في سبيل تعبئة الناحية الشعورية بالتضرع إلى اللّه من خلال الحاجة إليه وإلى رضوانه، وبالخوف منه من خلال التخلص من عقابه، وذلك من أجل إيجاد الوعي الروحي الذي يعيش فيه الإنسان الحضور الإلهيّ في شخصيته، فلا يكون غافلاً عنه.
 
 {واذكُر ربَّك في نَفسِكَ تضَرُّعاً وخِيفَةً ودون الجهرِ من القول بالغدو والأصال ولا تكُن من الغافلين} [الأعراف:205].
 
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيل} [المزمل:8].
 
وهكذا أراد اللّه أن نذكره في مقام التسبيح باسمه، وفي مقام الانفتاح على التزكية، وعلى الصلاة.
 
{سَبِّح اسم ربِّك الأعلى} [الأعلى:1].
 
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكَّى * وَذَكَر اسم ربِّه فَصَلَّى} [الأعلى:14ـ15].
 
كما أرادنا أن نذكره عندما نبدأ القراءة، لتكون القراءة باسمه، {اقرأ باسمِ ربِّك الذي خَلَقَ} [العلق:1].
 
وقد ورد التأكيد على أنَّ الحيوان لا يحلّ ذبحه إلاَّ إذا ذكر اسم اللّه عليه {ولا تأكُلُوا مما لـم يُذكر اسمُ اللّهِ عليهِ وإنَّه لفسقٌ} [الأنعام:121].
 
{فكُلُوا مما ذُكر اسم اللّه عليه إن كُنتُم بآياته مؤمنين} [الأنعام:118].
 
وهكذا تتنوّع الآيات التي تتحدّث عن ذكر اللّه وعن الذاكرين للّه، في ما يمثّله ذلك من قيمةٍ روحيةٍ كبيرةٍ تتصل بالمستوى الإيماني للإنسان المسلم، وبالدرجة الرفيعة التي يحصل عليها عند اللّه سبحانه وتعالى.
 
إننا نستطيع أن نخرج من هذا العرض السريع بنتيجةٍ محدّدةٍ، وهي أنَّ اللّه يريد لعباده أن يذكروه دائماً في كلّ أمورهم، وأن يربطوا به كلّ تحرّكاتهم وأوضاعهم، ليظلّ وعيهم الإيماني في الحضور الإلهي في فكرهم وشعورهم منفتحاً على اللّه، وليبقى إحساسهم متحركاً في نطاق ارتباط كلّ الأشياء به، فلا يستسلم الإنسان للحالات التي توحي له باستقلاله الذاتي أو باستقلال الأسباب الواقعية المحيطة به في إدارة قضاياه أو قضايا الكون من حوله، والتي قد تأتي من خلال الغفلة عن عمق الفقر التكويني الذي يتمثّل في كلّ الموجودات في علاقاتها باللّه.
 
وهذا ما انطلقت به التربية الإسلامية، لتجعل بداية كلّ عمل يقوم به الإنسان مرتبطاً باللّه سبحانه وتعالى، ليتولد لديه الشعور بأنَّ الطاقة التي يبذلها والأفكار التي يطلقها ليست شيئاً ذاتياً، بل هي شيءٌ مستمدٌّ من اللّه، بسبب ما أودعه في كيانه من أجهزة، وما أحاطه به من إمكاناتٍ، وهداه إليه من وسائل.
 
* * *
 
بين الارتباط باللّه والثقة بالنفس:
 
وليس معنى ذلك ـ كما قد يخيّل للبعض ـ أن يبتعد الإنسان عن الإحساس بالثقة بنفسه، ليكون مجرّد خشبةٍ في مجرى التيار، أو ورقةٍ في مهبّ الريح، فيوحي لنفسه دائماً بأنه لا يملك إرادته، ولا يسيطر على حركته، ولا يستطيع أن يتحكّم بتحديد مصيره، في ما تفرضه عليه العقيدة الإيمانية من ذلك كلّه، بل إنَّ المسألة، في بُعدها الفكري العقيدي، تؤكد الثقة بالنفس، من خلال ثبات الأجهزة المودعة في داخل كيانه في نطاق العقل والإرادة والحركة الخاضعة للقوانين الإلهية المتحكمة ببنية الكيان الإنساني وفاعليته، ومن خلال ثبات السنن الكونية التي أقام اللّه الكون عليها في حركة نظامه وفي مفردات الوجود في داخله، ما يوحي بأنَّ الإنسان يملك استقلاله الذاتي في دائرة النظام الكوني في كيانه وفي ما يحيط به من قوانين الوجود، وذلك من خلال إرادة اللّه التي تتصرف في الكون كلّه بالحكمة العميقة وبالقدرة المطلقة.
 
ونستطيع التأكيد بأنَّ هذا الارتباط الكلّي باللّه القدرة والرحمة والعلم والحكمة، يمنح الإنسان الشعور الكبير بالثقة، بدرجةٍ أكبر، لأنه يستند إليه ويستعين به في مواجهة كلّ عوامل الضعف الداخلية والخارجية التي تتحداه، من دون أن ينتقص ذلك من حريته ومصداقيته.
 
إنَّ الاستعانة باللّه تمثّل ـ في المفهوم الإسلامي ـ الاستعانة بمصدر القوّة الأساس في وجوده من ناحية المبدأ والتفاصيل، تماماً كما هو الحال في التفكير المادّي في السنن الكونية الطبيعية التي يراها أساساً لحركة الوجود المادية، مع فارق كبير، وهو أنَّ المؤمن ينفتح على الإرادة الإلهية الحكيمة العليمة القادرة الواعية، بينما يعيش المادّي في ضبابٍ شديدٍ.. كما أنَّ إرادة اللّه قد تتجاوز السنن الطبيعية في بعض الحالات، بينما لا يمكن تجاوزها في التصوّر المادّي لحركة الكون والإنسان.
 
* * *
 
البسملة في إطار المنهج التربوي الإسلامي:
 
وخلاصة الفكرة، أنَّ البسملة تمثّل جزءاً من حركة التربية الإسلامية في ارتباط الإنسان باللّه في أفعاله وأقواله، الأمر الذي يجعلها بمثابة الإيحاء المتحرّك المستمر بأنّ اللّه يقف خلف كلّ وجوده وحركته، فلا بُدَّ من أن يبدأ الأمور كلّها باسمه، ليكون ذلك موحياً بأنَّ اللّه هو الذي يعطي الشرعية العملية لما يحتاج إلى مصدر الشرعية، وأنه هو الذي يعطي القوّة الحركية لما يحتاج إلى مصدر القوّة، حتى لا ينفصل العمل الإنساني، في كلّ مواقعه، عن التصوّر الإيماني للّه، على أساس أنّه هو القوّة الوحيدة المهيمنة على الأمر كلّه في حركة الكون والإنسان، باعتبار أنه مصدر التكوين والتشريع، وبذلك يتأكد إيمان الإنسان في كلّ مواقع الحركة في أبعاد حياته.
 
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نقرر ضرورة التقيد بذكر البسملة في كلّ المواقع والمواثيق والمعاهدات والخطابات، باعتبار أنها تمثّل العنوان الإسلامي الذي يوحي بالخطّ الإسلامي الملتزم باللّه في ذلك كلّه.
 
وقد يكون من الضروري الانتباه إلى طبيعة الخطّة التي يعمد إليها غير المسلمين، أو غير الإسلاميين، في الإيحاء بأنَّ ذلك لا يمثّل عنصراً مهماً بالنسبة للقضايا الحيويّة التي تدور بين المسلمين وبين غيرهم على صعيد الاتفاقات، الأمر الذي يفرض علينا ـ في ما يقولونه ـ أن لا نتوقف أمام هذا الموضوع، وأن لا نصرّ على التقيّد به، مما قد ينعكس سلباً على إتمام الاتفاقات أو المواثيق المصيرية عندما يرفض الآخرون ذلك.
 
إنَّ علينا التنبّه إلى طبيعة هذه اللعبة الخبيثة التي تريد إبعادنا عن الوقوف أمام العنصر الحي من عناصر شخصيتنا الإسلامية في ما ترسمه من الملامح العامة للوجه الإسلامي الأصيل، وأن نواجه ذلك كلّه بالموقف الذي يؤكد على أنَّ المسألة ليست مجرّد كلمةٍ تُذكر أو تحذف، بل هي عنوانٌ للخطّ، وحركةٌ في المسيرة، ما يجعل الاستهانة بها استهانةً بالمعنى الأصيل الذي تمثّله في معنى العقيدة الإسلامية.
 
* * *
 
بِسمِ اللّه:
 
أي: أبتدىء باسم اللّه. وهذا هو المعنى المتبادر من جوّ الكلمة في متعلَّق الجار والمجرور، لأنّ المقصود هو الابتداء باسم اللّه في إيحاءاته بارتباط الفعل وهو القراءة، أو الانفتاح على المضمون الذي تشتمل عليه السورة في المعاني العامّة التي أراد اللّه بيانها في تفاصيل آياتها، لأن البداية عندما تكون {بسْمِ اللّه} ، فإنها تفتح وعي الإنسان على كلام اللّه النازل من خلال وحيه، ما يجعل من الابتداء باسمه مدخلاً للانفتاح عليه على أساس ما يرمز إليه اسم اللّه من الذات المقدسة المطلقة التي يرجع إليها الأمر كلّه، فتكون بداية كلّ شيء منه ونهايته إليه.
 
وكلمة الجلالة «اللّه» لا تدل إلاَّ على ذاته سبحانه، بالوضع، أو لغلبة الاستعمال، وذلك من خلال التبادر الذي يوحي بذلك.
 
وعلى ضوء هذا، فإنَّ الكلمة تحمل الوضوح الصافي المشرق الذي يجعل التصوّر في مستوى الحقيقة التي لا مجال فيها للغموض أو الاشتباه، بحيث لا يبقى هناك مجالٌ للحاجة إلى أيّ تأويل أو تفسيرٍ، ولذلك كانت كلمة التوحيد: «لا إله إلاّ اللّه» تعني الالتزام بالوحدانية من دون حاجةٍ إلى أيّ لفظ آخر يكمل المعنى، لتعيّن المعنى التوحيدي من خلال الكلمة.
 
* * *
 
الرحمن الرحيم:
 
هاتان الكلمتان الدالّتان على وصف واحد هو الرحمة، التي تمثّل، في مدلولها الإنساني، حالة انفعالٍ إيجابيٍّ، تصيب القلب بفعل احتضانه لآلام الآخرين وآمالهم ومشاكلهم، في رعاية محبَّبةٍ، وعناية ودودةٍ، وحنانٍ دافقٍ، وتنفذ إلى عمق حاجتهم، إلى العاطفة المنفتحة على كلّ كيانهم الجائع إلى الحنان الظامىء وإلى الحبّ المتحرّك نحو احتواء الموقف كلّه.
 
أمّا في الجانب الإلهي، فهي لا تقترب من مشاعر الانفعال الممتنع على اللّه، لأنه من حالات الجسد المادّي، ولكنها تنطلق في النتائج العملية المنفتحة على وجود الإنسان الذي يمثّل وجهاً من وجوه حركة الرحمة الإلهية لديه، وعلى كلّ تفاصيل حياته في النعم التي يغدقها اللّه عليه، وعلى كلّ مواقع خطاياه التي يغفرها اللّه له، وعلى كلّ مجالات حركته العامة أو الخاصة في آلامه ومشاكله ليخفّفها عنه أو ليبعدها عن حياته، وعلى كلّ تطلعاته في أحلامه ليحقّقها له، وعلى كلّ مصيره في الدنيا والآخرة ليجعل السعادة له في دائرة رضوانه في ذلك كلّه.
 
* * *
 
الوجود مظهر الرحمة الإلهية:
 
إنَّ الوجود كلّه هو مظهر الرحمة الإلهية التي هي صفة من صفات الكمال للّه في ما تعبّر عنه من الموقع الرحيم الذي يطل به اللّه على الوجود وعلى الإنسان في كلّ مواقعه في داخل طبيعة الوجود وفي عمق حركته، وهذا ما يريد اللّه في الإنسان أن يتصوّره به، ليشعر ـ دائماً ـ بقربه إليه من خلال حركة الرحمة التي وسعت كلّ شيء، باعتبار أنها تلاحق الإنسان لتضمّد له جراحه، ولتفتح قلبه على الأمل كلّه والخير كلّه، ولتَعِدَه بمستقبل مشرق كبير. وهذا هو ما يوحي به الدعاء المأثور: «اللّهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فإنَّ رحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كلّ شيء».
 
ولعلّ هذا هو الأسلوب التربوي الذي يعمل على تأكيد التصوّر الإنساني للّه من موقع الرحمة، ليبقى قريباً منه في مواقع حاجته إليه، من حيث الأفق الواسع المليء بالعطف واللطف والحنان والرضوان. ولعلّ هذا الأسلوب أيضاً، هو الذي أوجب التعبير عن الرحمة بكلمتين، ليزداد تأكيد هذا المضمون في الوعي الشعوري للإنسان تجاه ربه.
 
وإذا كان التأكيد يمثّل لوناً من التكرار للفكرة، فإنَّ الحاجة إليه لا تقتصر على دفع احتمال الاشتباه، كما يقرر النحويون، بل قد تكون المسألة فيه هي الحاجة إلى تعميق المعنى الذي تتضمنه الكلمة بشكلٍ عميقٍ واسعٍ، مما لا يحصل الإنسان عليه بالكلمة الواحدة، فلا ينافي ذلك بلاغة القرآن، لأنَّ التأكيد في مدلوله التصويري التعميقي لا يكرّر المعنى بشكلٍ جامدٍ، بل يعمقه بشكل حيٍّ متحرّكٍ.
 
* * *
 
المفسّرون والفرق بين الرحمن والرحيم:
 
وقد أفاض المفسّرون في توضيح الفرق بين الكلمتين، فذهب بعضٌ منهم إلى أن {الرَّحْمَـنِ} هو المنعم بجلائل النعم، وأنَّ {الرَّحِيمِ} هو المنعم بدقائقها، وذهب آخرون إلى أنَّ {الرَّحمَن} هو المنعم على جميع الخلق، وأنَّ {الرَّحِيمِ} هو المنعم على المؤمنين خاصة، وذهب رأي ثالث إلى أنَّ الوصفين بمعنى واحد، وأنَّ الثاني تأكيدٌ للأول.
 
وذكر بعض المفسّرين أنَّ صيغة الرحمن مبالغةٌ في الرحمة، ويعلّق السيِّد الخوئي (قده) عليه فيقول:
 
«وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة، سواء أكانت هيئة فعلان مستعملةً في المبالغة أم لم تكن، فإنَّ كلمة [ الرَّحْمَـنِ] في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلّق، فيستفاد منها العموم وأنَّ رحمته وسعت كلّ شيء، ومما يدلنا على ذلك، أنه لا يقال: إنَّ اللّه بالنّاس أو بالمؤمنين لرحمن، كما يقال: إنَّ اللّه بالنّاس أو بالمؤمنين لرحيم».
 
أمّا صفة [الرَّحِيمِ] فهي «صفةٌ مشبّهة أو صيغة مبالغة. ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالباً في الغرائز واللوازم غير المنفكّة عن الذات، كالعليم والقدير والشريف والوضيع والسخي والبخيل والعليّ والدنيّ. فالفارق بين الصفتين: أنَّ الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط، ومما يدلّ على أنَّ الرحمة في كلمة «رحيم» غريزةٌ وسجيّةٌ: أنَّ هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلّقها إلاّ متعدية بالباء، فقد قال تعالى:
 
{إِنَّ اللّه بِالنّاس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:143]، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيم} [الأحزاب:43].
 
فكأنها عند ذكر متعلّقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم»[1].
 
وهناك وجوهٌ أخرى، ولكنا لا نجد وجهاً واضحاً لهذه الاحتمالات، فهي لم ترتكز إلى دليل واضح.
 
* * *
 
نقاش رأي السيِّد الخوئي (قده):
 
أمّا ما ذكره أستاذنا المحقق السيِّد الخوئي ـ قده ـ، من دلالة كلمة {الرَّحْمَـنِ} على المبالغة في الرحمة، إمّا لكونها من صيغ المبالغة، كما ذكر البعض، وإمَّا لحذف المتعلّق مما يفيد العموم، فهو غير واضح، لأنَّ دلالتها على المبالغة لم تثبت، وربما كانت ملاحظة ما كان على هذا الوزن من الكلمات الأخرى تدفع ذلك، كما أنَّ حذف المتعلّق لا يفيد العموم دائماً، فربما كان ذلك من أجل التركيز على المبدأ. أمّا بالنسبة إلى صيغة «فعيل» فقد تستعمل في ما يكون من قبيل الغرائز، ولكنَّها قد تستعمل في غيره.
 
وهناك وجه آخر قد يكون أقرب الوجوه إلى الاعتبار، وهو الذي ذكره بعض المتأخرين؛ وخلاصته أنَّ الوصفيْن متغايران تمام التغاير، فالرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإحسان، والرحيم صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإحسان وتعدّيهما إلى المنعم عليه. ويدلّ على هذا أنَّ الرحمن لم تذكر في القرآن إلاَّ مجرًى عليها الصفات كما هو شأن أسماء الذات: {قُلِ ادْعُواْ اللّه أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ} [الإسراء:110] {لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ} [الزخرف:33] {أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـنِ وَلَد} [مريم:91] {إنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَـنِ} [مريم:45] {الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} [الرحمن:1ـ2] {الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ [طه:5] وهكذا…
 
أمّا {الرَّحِيمِ} فقد كثر استعمالها وصفاً فعلياً، وجاءت بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه: {إِنَّ اللّه بِالنّاس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:143] {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيم} [الأحزاب:43] {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، كما جاءت الرحمة كثيراً على هذا الأسلوب: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} [الأعراف:156] {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} [الكهف:16]، ولم يُرَ في القرآن تعبير ما برحمانية اللّه[2].
 
وقد نستطيع التعبير عن هذا الوجه بأنَّ كلمة {الرَّحْمَـنِ} هي صفته في ذاته، بينما {الرَّحِيمِ} تمثّل صفته في حركة الرحمة في خلقه. ولعلّ هذا هو المتبادر للذهن من موارد استعمالها؛ واللّه العالم.
 
* * *
 
موقع البسملة في القرآن:
 
ويبقى لنا سؤال آخر وهو: هل البسملة آية من القرآن أو أنها آية من الفاتحة فقط، أو أنها آية مستقلة نزلت للفصل بين السور مرّة واحدة؟
 
يذكر بعض المفسّرين، في ما نقله عن كثير من العلماء، أنها لم تُعرَف بتمامها عند المسلمين، إلاّ بعد أن نزلت سورة «النمل»، وأنهم كانوا يقولون أولاً: «باسمك اللّهم»، ثُمَّ قالوا: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» تبعاً لما جاء في السورة من قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللّه الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} [3] [النمل:30].
 
ونحن لم نجد لهذا القول مصدراً ثابتاً من الناحية التاريخية التي ذكرها هؤلاء.
 
وقد «اتفقت الشيعة الإمامية على أنَّ البسملة آية من كلّ سورة بدئت بها.
 
وذهب إليه ابن عباس، وابن المبارك، وأهل مكة كابن كثير، وأهل الكوفة كعاصم، والكسائي، وغيرهما ما سوى حمزة، وذهب إليه أيضاً غالبُ أصحابِ الشافعي، وجَزَم به قرّاء مكة والكوفة، وحكي هذا القول عن ابن عمر، وابن الزبير، وأبي هريرة، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومكحول، والزهري، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وإسحاق ابن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وعن البيهقي نقل هذا القول عن الثوري، ومحمَّد ابن كعب، واختاره الرازي في تفسيره ونسبه إلى قرّاء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز، وإلى ابن المبارك والثوري، واختاره أيضاً جلال الدين السيوطي مدّعياً تواتر الروايات الدّالة عليه معنًى.
 
وقال بعض الشافعية وحمزة: إنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها. ونسب ذلك إلى أحمد بن حنبل، كما نسب إليه القول الأول.
 
وذهب جماعة منهم: مالك، وأبو عمرو، ويعقوب إلى أنها آية فذّة، وليست جزءاً من فاتحة الكتاب ولا من غيرها، وقد أُنزلت لبيان رؤوس السور تيمناً وللفصل بين السورتين، وهو مشهورٌ بين الحنفية.
 
غير أنَّ أكثر الحنفية ذهبوا إلى وجوب قراءتها في الصلاة قبل الفاتحة، وذكر الزاهدي عن المجتبى أنَّ وجوب القراءة في كلّ ركعة هي الرِّواية الصحيحة عن أبي حنيفة.
 
وأمّا مالك فقد ذهب إلى كراهة قراءتها في نفسها، واستحبابها لأجل الخروج من الخلاف»[4].
 
وقد نلاحظ في هذه المسألة، أنَّ المشكلة المطروحة التي تخضع لها النتيجة الحاسمة، هي مشكلة القراءة في الصلاة، فإذا كانت جزءاً من الفاتحة، أو من أية سورة، وجبت قراءتها، وإذا لم تكن كذلك فلا يجب قراءتها إلاّ بدليل خاصّ، لأنَّ السورة لا تنقص بتركها.
 
أمّا طبيعة المسألة، فلا تمثّل مشكلةً عمليةً، لأنَّ سيرة المسلمين جاريةٌ على قراءة البسملة مع كلّ سورةٍ، كما أنّ المصاحف بأكملها مشتملةٌ عليها، حتى أنَّ المثبتين للجزئية جعلوا ذلك دليلاً عليها، ما يجعل للمسألة موقعاً فقهياً كبقية المسائل الفقهية العملية، ولذلك اكتفينا بالإشارة إلى الخلاف في المسألة وتركنا الاستدلال عليها للأبحاث الفقهية.
 
* * *
 
الحمد للّه رب العالمين:
 
[ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَـالَمِينَ] هذه هي الآية الأولى من سورة الفاتحة التي يبدأ فيها الإنسان المؤمن بالتعبير عن عمق إحساسه باللّه، من خلال ما يختزنه في داخل عقله الإيماني، وشعوره الروحي، وتصوّره الفكري، وحسّه الوجداني، من معنى الحمد للّه الذي يتحدّث اللغويون والمفسرون عنه ليضعوا أمام كلمته كلمة «المدح» أو «ضدّ اللوم». فهي تعبِّر عن مدح الإنسان لربِّه في ما يعتقده من عظمة صفاته، ويعرفه من امتداد نعمه، ورجوع كلّ خير إليه، وانطلاق كلّ وجودٍ من وجوده.. ولكن الكلمة، في ملامحها الإيحائية، توحي ببعض الإيحاءات النفسية، والإحساسات الشعورية، التي تجعل للكلمة معنًى يتصل بالشكر، فكأنَّ الإنسان عندما ينفتح على المدح، يتحسس موقع العظمة المنفتح على النعمة من حيث امتزاج المعنيين أو تداخلهما، باعتبار ارتباط مواقع الوجود ببعضها البعض. ولهذا نجد أنَّ كلمة الحمد تلتقي، في استعمالاتها، بمواقع كلمة الشكر. وهذا ما نراه في أغلب الكلمات المترادفة التي قد تتفق في المعنى من حيث المبدأ، ولكنَّها تختلف من حيث الإيحاءات، مما يجعل لكلّ كلمة موقعاً يختلف عن موقع الكلمة الأخرى، فنجد كلمة «بشر» مثلاً توضع في مقابل كلمة المَلَك، بينما توضع كلمة «الإنسان» في مقابل كلمة «الحيوان»، مع أنَّ معناهما، أي: البشر والإنسان، واحد.
 
* * *
 
لماذا الحمد للّه وحده؟
 
وهذه الجملة واردةٌ في مورد الحصر، باعتبار أنَّ للّه وحده الحمد كلّه، باعتباره مالكاً للوجود كلّه، والأمر كلّه. فإذا كان بعض خلقه مستحقّاً للحمد من خلال صفاته العظيمة، أو أفعاله الحسنة، فإنَّ اللّه هو الذي وهبه ذلك، ومكّنه منه. فهو الذي هيّأ له الظروف والوسائل والإمكانات التي جعلت منه إنساناً محموداً، ما يجعل من محامد خلقه امتداداً لمحامده، باعتبار أنَّ ذلك من فعله ومن إرادته.
 
إنَّ الخلق كلّه يمثّل بالنسبة إلى اللّه الظلّ والصدى وامتداد الشعاع، فلا وجود لهم إلاَّ من خلال وجوده، ولا حمد لهم إلاَّ من خلال حمده.
 
وإذا كانت الكلمة تنطلق من عمق الإحساس بالعظمة والنعمة، فلا بُدَّ من أن تطوف بالإنسان في رحاب اللّه، في صفات الجلال والكمال، ليعيش مع اللّه في ذلك الجوّ كلّه، ما يجعل الكلمة تجتذب آلاف الكلمات، كما ينطلق التصوّر في معنى الحمد الممتد في كلّ مواقع الحمد ليلتقي بآلاف التصوّرات في ما يحمله اسم الجلالة من كلّ المعاني العظيمة والصفات الحسنى.
 
وهذا هو التصوّر الأوّل في السورة في ما يتصوره المؤمن من تصوراته العقيديّة للّه، لتلتقي صفة اللّه المحمود، مع مشاعر المؤمن الحامد.
 
{رَبِّ الْعَـالَمِينَ} «الربّ: مأخوذ من رَبَب: وهو المالك المصلح والمربي، ومنه: الربيبة، وهو لا يطلق على غيره تعالى إلاَّ مضافاً إلى شيء، فيقال: ربّ السفينة، ربّ الدار». وكلمة العالم: «جمع لا مفرد له كرهط وقوم، وهو قد يطلق على مجموعةٍ من الخلق متماثلة، كما يقال: عالم الجماد، عالم النبات، عالم الحيوان. وقد يطلق على مجموعة يؤلّف بين أجزائها اجتماعها في زمان أو مكان، فيقال: عالم الصبا، عالم الذرّ، عالم الدنيا، عالم الآخرة. وقد يطلق ويُراد به الخلق كلّه على اختلاف حقائق وحداته، ويجمع بالواو والنون، فيقال: عالمون، ويجمع على فواعل، فيقال: عوالم، ولم يوجد في لغة العرب ما هو على زنة فاعل، ويجمع بالواو والنون، غير هذه الكلمة»[5].
 
* * *
 
اللّه هو المربي:
 
لذلك يمتزج معنى الألوهية، في ما تعنيه الكلمة، بمعنى التربية. فهو الإله الذي يخلق الخلق، ولكن لا ليتركهم في الفراغ، بل ليرعاهم فيربّي لهم إحساسهم من خلال الأجهزة التي أودعها في داخل كيانهم، ومن خلال الأشياء التي خلقها لهم من الطعام والشراب وغير ذلك، مما يتوقف عليه نموّ أجسادهم، ومما يربّي لهم عقولهم من خلال العناصر الدقيقة الخفية التي أقام عليها كيانهم الفكري، ومن خلال الوسائل الحسية التي حرَّكها لتموّن جهاز العقل في وجودهم، ليبدع ما شاء اللّه له من النتاج الفكري الذي يرفع مستوى الحياة في أكثر من مجال، ويربّي لهم حياتهم الروحية والعملية بالرسالات التي تمثّل أعلى درجات السموّ والخير والإبداع. ثُمَّ كانت تربيته للوجود كلّه في مخلوقاته الحيّة والنامية والجامدة، في ما أبدعه من النظام الكوني الذي يضع لكلّ موجود نظاماً بديعاً من الداخل والخارج، ويربط فيه بين المخلوقات في عملية التكامل الذي يتمثّل في الترابط الوجودي المتحرّك أو الساكن في وجود الأشياء.
 
وهكذا كانت الألوهية، التي تنفتح على الكون كلّه من قاعدة الوجود، والتربية، كما تتطلع إليها الموجودات من الموقع نفسه من خلال حاجتها الذاتية إليها في ذلك كلّه.
 
من هنا يظهر لنا أنَّ الألوهية، في المفهوم الإسلامي، تمثّل حقيقةً حيّةً متحركةً في علاقة الخالق بالمخلوق، كما هي علاقة المخلوق بالخالق، ليبقى الإنسان والحيوان والملك وكلّ مفردات الوجود في تطلّع دائمٍ، وفي انتظارٍ يوميٍّ، لكلّ العطاء الإلهي في استمرار الوجود، ما يجعل من عملية النموّ عمليةً مستمرةً مع الزمن كلّه، في حركة الوجود كلّه.
 
* * *
 
التآزر والتآخي بين مفردات الوجود:
 
وأمّا كلمة: {الْعَـالَمِينَ} ، فتفتح آفاقها لتشمل مفردات الوجود كلّها في اختلافها في عناصرها الذاتية وملامحها النوعية، وحركتها الوجودية، وأوضاعها الشكلية، ومجالاتها الحركية، ومداراتها الكونية.. ثُمَّ توحّدها في وحدة الخالق المربّي الذي يرعى حركة وجودها، ويمنح كلّ واحدةٍ منها الخصائص التي تؤدي بها إلى غاية الوجود فيها، لتتآزر كلّها في أخوّة وجودية تجعل من ساحة الكون مجالاً للتكامل، فكلّ وجودٍ منها مسخّرٌ لوجودٍ آخر، حتى مظاهر الصراع بينها لا تبتعد عن نقطة التوازن في دائرة التكامل، فالحيوان الصغير الذي ينمو ليكون طعاماً للحيوان الكبير، لا يعيش الصراع بين وجودين، ولكنه يمثّل الوجود الذي يمنح ذاته لوجودٍ آخر، ليتابع نموّه واستمراره في حركة الوجود الصاعد إلى الغاية الكبرى للوجود كلّه، من خلال التخطيط الإلهيّ للنظام الوجودي الكونيّ الكبير.
 
ومن خلال ذلك، نستلهم الفكرة الإيمانية التي ترتكز على تآخي الموجودات في حركة الوجود. وهذا ما نتمثّله في التطلّع الإيماني الذي ينطلق به الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) عندما يتطلع إلى الصباح، وهو يستقبل الكون كلّه في شروق الشمس، فيشعر بوحدة الإنسان مع الكون كلّه بين يدي اللّه، وفي قبضته وتدبيره، في دعاء الصباح والمساء:
 
«أصبحنا (أو أمسينا) وأصبحت الأشياء كلّها بجملتها لك، سماؤها وأرضها وما بَثَثْت في كلّ واحدٍ منهما، ساكنه ومتحرّكه ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء وما كَنّ تحت الثرى.
 
أصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكك وسلطانك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك، ليس لنا من الأمر إلاَّ ما قضيت، ولا من الخير إلاَّ ما أعطيت»[6].
 
وهذا هو المفهوم الثاني من التصوّر الإسلامي للعقيدة باللّه، فهو ربّ العالمين، أي: «ربّ الوجود». وهو الربّ الذي يرعى خلقه ويقودهم إلى ما فيه هداهم، ويحقّق لهم التوازن والتكامل في دائرة الوجود الخاص أو العام.
 
[الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ] . وقد تقدّم الحديث عن ملامح هاتين الكلمتين في معناهما، أمّا موقعهما في هذه السورة، فلعله كان بلحاظ الإيحاء بأنَّ الربوبية الشاملة تنفتح على الخلق، ولا سيما الإنسان، من خلال الرحمة الواسعة التي تتسع لتشمل الخلائق كلّهم، ليقفوا أمامه في أملٍ كبيرٍ ورجاءٍ عظيمٍ، على هذا الصعيد، ليتوازن الشعور لديهم بين الخوف، من خلال وحي الربوبية الشاملة، وبين الرجاء، من خلال وحي الرحمة الواسعة.
 
* * *
 
مالك يوم الدِّين:
 
[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ، يوم الدين: أي: يوم الجزاء أو الحساب. هذه الفقرة تدل على إحاطة اللّه تعالى وسيطرته على هذا اليوم الذي يقوم النّاس فيه لربّ العالمين، لينطلق التصوّر في جولةٍ واسعةٍ في ساحة المسؤولية التي يتحملها الإنسان في حياته بين يدي اللّه، في ما كلّفه اللّه به من إطاعة أوامره ونواهيه، لأنَّ ذلك هو طبيعة وجود يوم الجزاء، لأنَّ الجزاء لا يكون إلاَّ على الطاعة أو المعصية، كما أنَّ يوم الحساب يفرض وجود يوم للعمل. وهكذا ينفتح الإنسان على ربِّه المالك ليوم الجزاء ليخاف عقابه من موقع عدله، أو ليرجو ثوابه من موقع رحمته، ليقترب منه في ساحات الخضوع والخشوع من خلال معرفته بالمصير الأخروي الذي يحمل إليه السعادة الدائمة أو الشقاء الخالد.
 
وهكذا تتحرّك هذه الآيات الثلاث لتدفع بالإنسان إلى حمد اللّه تعالى في ما هو التصوّر للربوبية المهيمنة على العالمين، وللرحمة الشاملة الواسعة على كلّ آفاق حياتهم، وللمالكية المطلقة ليوم الجزاء الذي يقوم النّاس فيه لربّ العالمين، ليبعث فيهم الشعور بالرغبة أو الرهبة.
 
وهذه نقلةٌ بيانيّةٌ في أسلوب السورة الذي ينقل الجوّ من الغَيْبة في حديث الإنسان عن اللّه في حمده له وتعداده لصفاته، إلى الخطاب الذي ينطلق فيه الإنسان المؤمن باللّه، الحامد له، المنفتح على عظمته، من خلال انفتاحه على صفاته في ربوبيته للعالمين، ورحمته لهم، وسيطرته على مواقع الجزاء في مصيرهم، ليخاطب اللّه في موقف التزامٍ ودعاء، وذلك أنَّ هذا النوع من التطلّع الإيماني الفكري للّه، في صفات عظمته ورحمته، يجسّد في وعي الإنسان الحضور الإلهي، كما لو كانت المسألة في دائرة الإحساس الطبيعي في عمق ذاته، تماماً كما هي الصدمة الفكرية التي تتحول إلى انطلاقةٍ شعوريةٍ بين يدي اللّه، ليعبّر له عن إخلاصه في العبودية، وعن توحيده في العبادة وفي الاستعانة، فلا يعبد غيره من موقع أنّه لا يعترف بالألوهية لغيره، ولا يقر بالعبودية لسواه، فهو وحده الإله الذي يستحق العبادة، وهو ـ وحده ـ القادر على الإعانة، على أساس أنه الذي يملك الأمر كلّه، فلا يملك غيره معه شيئاً، ما يجعل الخلق كلّه عاجزاً عن تقديم ما لا يريد اللّه أن يقدّمه من عونٍ لنفسه وللآخرين من حوله.
 
وهذا الأسلوب القرآني الرائع، يجعل مسألة التصوّر تطل على الانفتاح الفكري المنطلق في أجواء التأمل الروحي، وتمثّل حركةً في مسألة الخطاب الإيماني، فيما هو الإقرار الشعوري في الالتزام العقيدي. وهذا هو ما نريد أن نتمثّله في الخطّ التربويّ الذي يتحرّك في اتجاه تحويل الحالة الفكرية إلى حالةٍ شعورية، من أجل الوصول إلى مضمون الإيمان الذي هو الوجه الشعوري للمضمون الفكري.
 
* * *
 
إياك نعبد وإياك نستعين:
 
وقد نحتاج إلى الإطلالة على خصوصية التعبير عن الالتزام بعبادة اللّه، والاستعانة به، بطريقة تقديم المفعول به على الفعل والفاعل الذي ينفصل فيه الضمير، فيتحول من ضميرٍ متصلٍ في ما يتمثّل في كلمةٍ «نعبدك» «ونستعينك»، إلى ضميرٍ منفصلٍ يتقدّم على الفعل وذلك في جملة: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". وهذه الخصوصية هي الحصر الذي يدلّ عليه تقديم المفعول على الفعل ليكون المعنى هو حصر العبادة باللّه، والاستعانة به، وذلك من أجل التعبير عن التوحيد العملي الذي هو التجسيد الواقعي للتوحيد الفكري العقيدي، فقد لا يكفي في الإسلام، كما في كلّ الرسالات التوحيدية، أن يعيش الإنسان العقيدة في دائرتها التصورية، بل لا بُدَّ له من أن يعيشها في دائرتها العملية، فيما هي حركة العبادة في الذات، وفيما هي مسألة الارتباط باللّه، المشدود إليه في أوضاع الحياة. بل ربما نجد أنَّ هناك نوعاً من الوحدة بين الجانب النظري والجانب العملي في دعوة الرسالات، بحيث يكون التوحيد في العبادة هو الواجهة للدعوة في ما تختزنه من التوحيد في العقيدة.
 
وهذا ما حدّثنا عنه في دعوة نوح وهود وصالح (ع) التي اختصرتها الفقرة التالية في قوله تعالى: {اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
 
ولعلّ هذا هو التعبير الحركي الذي انطلقت فيه سورة الفاتحة من أجل تأكيد الدعوة إلى التوحيد في أسلوب الإقرار الذاتي الذي يندفع فيه الإنسان المؤمن، كحالةٍ شعورية ذاتيةٍ، بعيداً عن الجانب التقريري في هذه المسألة العقيدية المهمّة، ما يترك تأثيراً إيجابياً على حركة العقيدة أكثر مما يتركه من التأثير في الأسلوب الخطابي أو التقريري، في ما يمثّله من التعبير عن الصورة في وجودها الواقعي الذي يفرض التوحيد كحقيقةٍ متحركةٍ متجسدةٍ، لا كفكرةٍ ذهنيةٍ في مرحلة الدعوة.
 
وهناك نقطتان لا بُدَّ من الحديث عنهما بشكلٍ تفصيلي:
 
الأولى: مفهوم العبادة.
 
والثانية: مقياس التوحيد والشرك فيها في الدائرة التطبيقية العملية.
 
* * *
 
مفهوم العبادة:
 
قد تفسر العبادة بمعانٍ ثلاثة ـ في اللغة ـ:
 
الأول: الطاعة. ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس:60] فإنَّ عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة هي إطاعته.
 
الثاني: الخضوع والتذلّل. ومنه قوله تعالى: {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـابِدُونَ} [المؤمنون:47] أي خاضعون متذلّلون.
 
الثالث: التألّه. ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد:36].
 
وإلى المعنى الأخير يُصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينةٍ.
 
وقد نلاحظ أمام هذا الحديث عن التنوّع في المعاني، أنها تنطلق من معنى واحد، وهو الخضوع المطلق الذي يختزن في داخله معنى الاستسلام للمعبود والذوبان فيه والانسحاق أمامه، حتى ليحتوي في حالته الشعورية الإحساس بشيءٍ من الألوهية أو بالألوهية كلّها في ذات المعبود. فليست العبادة هي الخضوع ولا الطاعة ولا التألّه، ولكنَّها المعنى الذي يشمل ذلك كلّه في خصوصيةٍ مميّزةٍ.
 
في ضوء ذلك، يمكن فهم قول الإمام الحسين (ع): «النّاس عبيد الدنيا والدِّين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون»[7].
 
فإنَّ عبادة النّاس للدنيا تنطلق من استغراقهم فيها، حتى كأنهم يمنحونها صفة الإله في استسلامهم المطلق لكلّ شهواتها ومتطلباتها، كما لو كانت إلهاً معبوداً. وهذا من التألّه الخفيّ الذي قد لا يستشعره الإنسان في وعيه، لكنَّه يختزنه في المنطقة الخفية في ذاته. كما نستوحي ذلك من قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ] [الجاثية:23].
 
فإنَّ اعتبار الهوى إلهاً، ينطلق من عمق الاستغراق فيه، كما لو كان هو الذي يحتوي الوجود بحيث لا يبصر الإنسان غيره، ولا يندفع إلاّ نحوه، ولا يلتزم إلاَّ به، حتى يستولي على كلّ ذاته.
 
وقد نستفيد ذلك من الكلمة المأثورة: «فمن أطاع ناطقاً فقد عبده، فإن كان الناطق ينطق عن اللّه تعالى فقد عبد اللّه، وإن كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه»[8]، بما يوحيه ذلك من الاستغراق المتمثّل بالإصغاء الذي يستولي على الفكر والشعور، بحيث يفقد الإنسان إرادته معه.
 
* * *
 
مقياس التوحيد:
 
والسؤال المطروح في مسألة التوحيد في العبادة هو: كيف يتمثّل في الممارسات؟
 
فهل يتمثّل ذلك في الابتعاد، في صورة العبادة الشكلية، عن كلّ الأشكال التي جرت عليها التشريعات العبادية في طريقة عبادة اللّه، فيكون الركوع أو السجود أو الانحناء لغير للّه لوناً من ألوان الشرك، حتى إذا كان ذلك بعنوان الاحترام أو التحية أو ما إلى ذلك، مما لا يبتعد فيه الإنسان عن الإحساس بإنسانية الذات التي يقدّم إليها الاحترام أو تلقى إليها التحية؟
 
أو هو يتمثّل في الابتعاد عن الاستغراق في الشخص، بحيث يوجه الخضوع إليه، في أشكاله المتنوّعة، من خلال الأسرار الإلهية المخزونة في ذاته، بحيث تجعله واسطةً بين النّاس وبين اللّه، لتكون عبادتهم له من أجل الحصول على وساطته في القرب من اللّه، كما ورد في حديث اللّه عن المشركين الذين يعبدون الأصنام ليبرِّروا ذلك بقولهم الذي ذكره اللّه تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللّه زُلْفَى} [الزمر:3]؟
 
أو يتمثّل ذلك في الامتناع عن اعتقاد الألوهية في كل ما عدا اللّه ومن عداه، لتكون القضية قضية الابتعاد عن أية ممارسةٍ عباديةٍ توحي بالمعنى الإلهي في المعبود، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، وبذلك يلتقي التوحيد في العقيدة بالتوحيد في العبادة، حيث يتلازمان في المضمون وفي الواقع؟ ولعلّ هذا هو الأساس في أسلوب الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد في العقيدة بطريقة الدعوة إلى التوحيد في العبادة، كما في قوله تعالى: {اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32].
 
ربما نلاحظ أنَّ الصورة الشكلية، في ما تعارف عليه النّاس من طقوس في مظاهر العبادة، لا تمثّل ـ بمجرّدها ـ معنى العبادة، بل لا بُدَّ من أن ينضم إليها الاستغراق في الذات التي يوجَّه إليها الفعل المعين، في ما يشبه حالة الذوبان الذي يفقد الإنسان معه الإحساس بإرادته أمامها، أو في الالتفات إلى وجوده معها. ولذلك لا بُدَّ من وجود حالةٍ نفسيةٍ في مستوى الانسحاق في انطباق مفهوم العبادة عليه. وهذا ما نستوحيه في مسألة أمر اللّه للملائكة ولإبليس بالسجود لآدم (ع)، باعتبار ما يمثّله ذلك من معنى الاحترام الناشىء من الإيحاء بعظمة خلقه ـ كما هو أحد الاحتمالات في ذلك ـ فإنَّ من الطبيعيّ أنَّ اللّه لم يأمر بذلك بمعنى العبادة لآدم (ع) حتى على مستوى المظهر؛ لأنَّ اللّه لا يرضى بعبادة غيره وإن كان من أقرب خلقه إليه. ولذلك، لم يكن ردّ فعل إبليس على المسألة اعتراضاً على منافاة ذلك للإخلاص للّه وللإيمان بوحدانيته، بل اعتراضاً على أن يكون عنصر التراب أفضل من عنصر النّار، بحيث لا يتناسب ذلك مع سجود المخلوق من النّار، التي هي أقوى من التراب، للمخلوق من التراب، لأنَّ السجود يمثّل التعبير عن التعظيم، باعتبار أنه صاحب القيمة الفضلى والمستوى الأرفع.
 
وهكذا، فإننا لم نجد من الملائكة استغراباً للأمر، في ما يمكن أن يحمله، حسب هذا الفرض، من المنافاة للتوحيد في العبادة.
 
وهذا ما نستوحيه من سجود يعقوب (ع) وزوجته وأولاده ليوسف (ع)، وذلك قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ} [يوسف:100] فإنَّ الظاهر أنَّ المراد منها هو سجود أبويه وإخوته له، لأنه قال ـ بعد ذلك ـ: {يأَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّ} [يوسف:100]؛ وكان، في ما قصّه على أبيه من رؤياه في بداية القصة، ما ذكره اللّه سبحانه: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، فهل يمكن أن يكون في سجود يعقوب (ع) وزوجته وأولاده لونٌ من ألوان العبادة ليوسف (ع) الذي يعيش العبودية للّه في أعلى مواقعها، كما عاشها أبوه (ع) في هذا المستوى؟
 
إنَّ المسألة هي ـ في ما يبدو ـ مسألة التقليد المتّبع في احترام صاحب العرش، الذي يملك السلطة، في السجود له، تعبيراً عن الشعور بعظمته وعن التقدير لمقامه الرفيع.
 
وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ من التدقيق في طبيعة الأشكال المتعارفة لدى النّاس، التي تلتقي ـ بشكل أو بآخر ـ بالشكليات الطقوسية للعبادة، ودراسة خلفياتها الفكرية والروحية في شخصية من يمارسها، ومعرفة التقاليد الاجتماعية في مسألة الاحترام والتقدير، في ما تعتاده المجتمعات من طرق تعبير مختلفة، لنميّز بين ما يسيء إلى التوحيد في العبادة، عندما تكون الخلفيات مرتبطةً بالاستغراق بالشخص أو الجهة، بحيث يفقد الإنسان الإحساس بوجوده معه، أو بحضور اللّه في علوّ موقعه في المعنى الإلهيّ التوحيدي فيه، وبين ما لا يسيء إلى التوحيد، لأنه ينطلق من حالة عُرفية تقليديةٍ في ما هو الاحترام والحبّ والتعظيم، لكنَّها لا تغفل عن الإحساس بعظمة اللّه في مقام وحدانيته، في ما تمارسه من أعمالٍ وأقوال.
 
* * *
 
التوحيد والشرك في الجانب التطبيقي:
 
ومن خلال ذلك، يمكن لنا الإطلالة على الخلاف الدائر بين التيار الوهابي السلفي وبين المذاهب الإسلامية الكلامية الأخرى في مسألة التوسل بالأنبياء وبالأئمة والأولياء والاستشفاع بهم إلى اللّه والتبرك بقبورهم وما إلى ذلك من المفردات الطقوسية المتمثّلة في السلوك الإسلامي العام. فقد اعتبر السلفيون ـ وفي مقدمتهم الوهابيون ـ أنَّ هذه الأمور تمثّل ألواناً من العبادة لغير اللّه، وذلك من خلال ما تمثّله من الخضوع لهؤلاء، الذي هو مظهرٌ من مظاهر العبادة، ولذلك كفّروا المسلمين الذين يمارسون هذه الأعمال ونسبوا إليهم الشرك باللّه.
 
لكنَّ جمهرة المسلمين من السنة والشيعة خالفتهم في ذلك من حيث المبدأ، لأنَّ مثل هذه الأمور لا تمثّل معنى العبادة في طبيعتها إذا لم ينضم إليها الاستغراق الذي يحمل معنى التألّه، في ما توحي به كلمة الشرك في العبادة الذي يرتبط بالفكرة التي ترى في الذات أو الصنم، سرّ الألوهية بدرجةٍ معينةٍ، قد تزيد وقد تنقص، تبعاً لما يمثِّله الأشخاص الصنميّون في ذلك.
 
وإذا كان بعض السلفيين يوردون بعض الأحاديث الناهية عن زيارة القبور، أو يفلسفون مسألة التوسل والشفاعة من خلال بعض العناوين والمفردات العقيدية أو الشرعية، فإنَّ المسألة تتحوّل إلى التوفر على دراسة هذه الأحاديث أو تلك التحليلات على أساس الحوار العلمي الكلامي أو الفقهي، الخاضع للدراسة المعمّقة التي تضع الأمور في نصابها الصحيح. ولا بُدَّ لمثل هذا الحوار من أن يخضع للمنهج الإسلامي في مفرداته وأساليبه وروحيته القائمة على الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، لا في تسجيل النقاط في هذه الدائرة أو تلك على الطريقة الجدلية، لأننا لاحظنا في أكثر المطارحات الدائرة في هذه القضايا، أنها كانت تتحرّك من روحيةٍ متشنّجةٍ لا من ذهنيةٍ منفتحة.
 
وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نتجاوز ذلك كلّه إلى النتائج العلمية الإسلامية القائمة على الأصول الثابتة من الكتاب والسنة الصحيحة.
 
* * *
 
الحوار المطلوب:
 
وربما كان من الأفضل ـ بل المتعين ـ أن يكون الحوار بين رجال المذاهب الإسلامية المتنوّعة، الكلامية والفقهية، لأنَّ ذلك هو الذي ينزع الكثير من الأوهام التي حملها هذا الفريق عن ذاك، من خلال بعض الكلمات أو بعض الممارسات، مما يمكن أن يجد لدى صاحبها تأويلاً أو تفسيراً يصل بالمسألة إلى مستوى الوضوح الكامل.
 
وهذا ما يسهّل قضية التفاهم بينهم عندما يطرح كلّ واحد منهم وجهة نظره في المسألة الفقهية أو الكلامية في مواقع تقديم الحجج عليها والدفاع عنها، ما يتيح للآخر القيام بمثل ذلك، ثُمَّ اكتشاف الثغرات التي تخضع للحساب وللمعالجة على أساس القواعد الإسلامية الثابتة بشكل قطعي.
 
إنَّ تأكيدنا على هذه النقطة، في خضوع الحوار للمنهج الإسلامي، وفي ممارسته بشكلٍ مباشرٍ، وجهاً لوجهٍ، ينطلق من ملاحظاتنا على تجارب الجدال بين المذاهب الإسلامية، التي قد تنسب بعض الأفكار إلى جماعاتٍ لا تقول بها، أو تبتعد عن الدقة في المفردات المتناثرة في هذا المحور أو ذاك، كنتيجةٍ لسوء الفهم، أو لإجمال الكلام، أو لبعض الرِّوايات غير الدقيقة في نقل المضمون الفكري، أو ما إلى ذلك.
 
وهذا ما لاحظناه في ما نُسب إلى الشيعة الإمامية من الغلوّ في الأئمة ومن السجود لغير اللّه، في ما يأخذونه من تراب قبر الإمام الحسين (ع)، للسجود عليه في الصلاة، بحجة أنه يمثّل السجود للإمام الحسين (ع)، ومن التحريف للقرآن، وغير ذلك من الأمور التي قد يلتقي المسلمون على معرفتها بدقّةٍ ـ من خلال الحوار ـ لتصفو النظرة، وتستقيم الفكرة، وتتأكد الثقة.
 
وخلاصة الفكرة في مسألة العبادة، أنها تمثّل غاية الخضوع للمعبود من حيث الشكل، في ما يعبّر عنه من وسائل التعبير القولية والفعلية بالمستوى الذي يوحي بالانسحاق أمامه، ومن حيث المضمون في ما ينطلق به العبد من الخضوع الداخلي للمعبود بحيث يستغرق في ذاته، في ما هي عبادة الذات، أو في موقعه، في ما هي عبادة الموقع ـ الرمز.
 
أمّا الشرك في عبادة اللّه، فإنه ينطلق من الاستغراق في عبادة غيره من موقع التألّه، أو من موقع الإيحاء بالأسرار الإلهية الكامنة في ذاته، كما في قوله تعالى في الحديث عن منطق العابدين للأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللّه زُلْفَى} [الزمر:3].
 
فقد كان الوثنيون يتوجهون إليهم بالعبادة، فيطلبون منهم حوائجهم، ويبتهلون إليهم على أساس أنهم يتقربون إليهم بذلك ليقربوهم إلى اللّه، من خلال الحظوة الذاتية لديهم عند اللّه، كما توهم الجاهليون.
 
* * *
 
بين عبادة الأصنام واحترام الأولياء:
 
وهذا هو الفرق بين ما يفعله الوثنيون وما يفعله المسلمون الذين يؤكدون شرعية الشفاعة والتوسل بالأنبياء والأولياء، باعتبار أنَّ المسلمين يفعلون ذلك من موقع التوجه إلى اللّه بأن يجعلهم الشفعاء لهم، وأن يقضي حاجاتهم بحقّ هؤلاء في ما جعله لهم من حقّ، مع الوعي الدقيق للمسألة الفكرية في ذلك كلّه، وهي الاعتراف بأنهم عباد اللّه المكرمون المطيعون له الخاضعون لألوهيته {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] وأنهم البشر الذين منحهم اللّه رسالته في ما ألقاه إليهم من وحيه، ومنحهم ولايته في ما قربهم إليه في خطّهم العملي، فكيف يقاس هذا بذاك؟!
 
وإذا كانوا يعتقدون أنهم الشفعاء، فلأنَّ اللّه أكرمهم بذلك، وحدّد لهم حدوداً في من يشفعون له: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، فليست القضية قضية أسرارٍ ذاتيةٍ في خصائص الألوهية تتيح لهم هذا الموقع، تماماً كما هي قضية العلاقات المميّزة الخاضعة للأوضاع العاطفية أو نحوها، بل القضية قضية كرامةٍ من اللّه لهم من خلال حكمته البالغة في ألطافه بأوليائه.
 
وهكذا نرى أنَّ الذهنية العقيدية لدى المسلمين لا تحمل أيّ لون من ألوان الشرك بالمعنى العبادي، كما لا يحملون ذلك بالمعنى الفكري، بل يختزنون، في دائرة التعظيم للأنبياء والأولياء، الشعور العميق بأنَّ اللّه هو خالق الكون ومدبّره، وأنَّ هؤلاء لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلاَّ به، وأنَّ كلّ ما لديهم مما يعتقد النّاس أنهم يملكون التأثير فيه بشكل وآخر، هو من آثار لطف اللّه بهم في تمكنهم من ذلك بإذنه وإرادته، تماماً كما هو الإيحاء في ما تحدّث به القرآن عن عيسى (ع) في حديثه عن مواقع قدرة اللّه في ذاته، وذلك قوله تعالى: {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّه وَأُبْرِىءُ الاَْكْمَهَ والاَْبْرَصَ وَأُحْيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّه} [آل عمران:49].
 
وإذا كان اللّه قادراً على أن يحقِّق ذلك ـ من خلالهم ـ في حياتهم، فهو القادر على أن يحقّق ذلك بعد مماتهم ـ باسمهم ـ، لأنَّ القدرة، في الحالين، واحدة في ما يريد اللّه له أن تتجلى قدرته في حركة خلقه.
 
فليس في ذلك شيء من الشرك، بالمعنى الدقيق لهذا المفهوم، عندما نريد التدقيق في حدود المصطلح، وفي ما تحكم به الشريعة من أحكامٍ محدّدة على النّاس الذين ينطقون بالشهادة بالمستوى الذي لا تتسع له كلمة الكفر أو الشرك في ما يتعلّق بها من أحكام.
 
* * *
 
ضرورة التوازن:
 
وإذا كنا لا نقرّ إطلاق كلمة الشرك على المسلمين الذين يتوسلون بالأنبياء والأولياء ويتبركون بقبورهم ويطلبون من اللّه أن يشفِّعهم فيهم، أو يطلبون منهم أن يشفعوا لهم عند اللّه، لأنَّ ذلك لا يعني عبادة غير اللّه، ولا يقترب ـ بالتالي ـ من أجواء الجاهلية التي كانت تدفع النّاس إلى عبادة الأصنام حتى يقربوهم إلى اللّه زلفى. إذا كنّا لا نقرّ للسلفيين ذلك، فإننا نحبّ أن نوجّه الانتباه إلى أنَّ التقاليد المتّبعة لدى العوام من المسلمين في تعظيم الأنبياء والأولياء وفي زيارة قبورهم قد تتخذ اتجاهاً خطيراً في خطّ الانحراف في التصوّر والممارسات، وذلك من خلال الجانب الشعوري الذي يترك تأثيره على الانفعالات الذاتية في الحالات المتنوّعة التي قد تدفع إلى المزيد من الممارسات المنحرفة في غياب الضوابط الفكرية التربوية، في ما ينطلق به التوجيه الإسلامي للحدود التي يجب الوقوف عندها من خلال طبيعة الحقائق الواقعية للعقيدة، لأنه لا يكفي، في استقامة العقيدة، أن لا يكون هناك دليل مانعٌ من عملٍ معيّنٍ، أو من كلماتٍ خاصةٍ، أو من طقوسٍ متنوّعةٍ، بل لا بُدَّ من الانفتاح على العناصر القرآنية للفكرة العقيدية، والأجواء المحيطة بها، والروحية المميّزة المتحركة في طبيعتها، حتى لا تختلط مظاهر الاحترام بين ما يقدَّم للخالق وما يقدَّم للمخلوق، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك شركاً أو كفراً، أو لم يكن. ولا سيما إذا عرفنا أنَّ الشعوب قد يقلّد بعضها بعضاً في الكثير من الطقوس والعادات في مظاهر الاحترام والتعظيم، ما قد يؤدي إلى التأثر الشعبي ببعض التقاليد الموجودة لدى بعض الشعوب غير الإسلامية التي قد تشتمل على العناصر الفكرية أو الروحية البعيدة عن فكر الإسلام وروحه.
 
إنَّ هناك نوعاً من التوازن في الحدود النفسية للارتباط الروحي بالأشخاص، من حيث الشكل أو المضمون، لا بُدَّ للمسلم من مراعاته من أجل الاحتفاظ بالأصالة الفكرية التوحيدية في خطّ الانفتاح على اللّه بما لا ينفتح به على غيره، أو في طبيعة الدعوة إلى اللّه بما لا يدعو به إلى غيره، لإبقاء الصفاء العقيدي في العمق الشعوري الروحي للإنسان المسلم، لأنَّ ذلك هو السبيل الأمثل للاستقامة على الخطّ المستقيم، لأننا لا نريد أن نصل في استغراقنا العاطفي إلى لونٍ من ألوان عبادة الشخصية في ما تتحرّك به مشاعر العاطفة بعيداً عن رقابة العقل، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نتحمّل مسؤولياتنا في الساحة الفكرية، لنراقب طبيعة الأساليب الشعبية في ذلك كلّه؛ لنبقى من خلال المراقبة الدقيقة في مواقع التوازن الفكري والروحي في خط العقيدة.
 
* * *
 
الدوافع الروحية للعبادة:
 
وهناك نقطةٌ لا بُدَّ من إثارتها في الحديث عن عبادة اللّه في مواقع توحيده والإخلاص له، وهي الدوافع الروحية التي تدفع الإنسان المؤمن إلى العبادة.
 
فهناك الدوافع المتحرّكة من خلال الرغبة في الحصول على الجنّة، على أساس الحصول على رضاه، وهناك الدوافع المنطلقة من خلال الرهبة من النّار، على أساس البعد عن مواقع سخطه، وهناك الدوافع المنفتحة على اللّه في مواقع ألوهيته في عظمته في كلّ صفاته الجمالية والجلالية، على أساس استحقاقه للعبادة في ذاته، بعيداً عن عامل الرغبة أو الرهبة.
 
وقد يخيّل لبعض النّاس أنَّ العبادة الحقيقية تتمثّل في الصنف الثالث، لأنها المظهر الحيّ للخضوع للذات الإلهية، من دون أن يكون هناك أيّ شيءٍ للعنصر الذاتي للعابد، في ما يحتاج إليه من ربحٍ لمصلحته، أو في ما يبتعد عنه من خسارةٍ لحساب حاجته، فإنَّ الرغبة والرهبة حالتان إنسانيتان تحرّكان الإنسان نحو ذاته حتى في انفتاحه على اللّه، أكثر مما تحركانه نحو اللّه في مواقع ألوهيته.
 
وهذا هو الإيحاء الفكري، في ما جاء عن الإمام عليّ (ع) في نهج البلاغة، قال: «إنّ قوماً عبدوا اللّه رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا اللّه رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنَّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الأحرار»[9]. فقد نلاحظ ـ في هذه اللفتة التعبيرية ـ لوناً من الإيحاء بأنَّ الإنسان الذي ينطلق من الرغبة إنسانٌ تاجرٌ يتحرّك من الذهنية التجارية، كما أنَّ الذي ينطلق من الرهبة عبدٌ يتحرّك من عقلية العبيد الهاربة من كلّ عقاب.. فليستا حالتين في العبادة، بل هما حالتان ماديتان في الاستغراق الإنساني في ذاته، في ما يجلب لها من النفع أو يدفع عنها من الضرر. وقد نقل عنه أنه قال:
 
«إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»[10].
 
ولكنَّنا لا نرى في عنصر الخوف والطمع أيّة منافاة للمعنى العميق للعبادة، لأنَّ الخضوع الإنساني المستغرق في ذات اللّه ـ المعبود، ينطلق من التفكير في عظمته، بحيث يشعر بأنَّه مشدودٌ إليه في وجوده، ومفتقرٌ إليه في حاجاته، وخاضعٌ له في مصيره، فإنَّ الرغبة أو الرهبة ـ بالمعنى المطلق ـ لا تتعلّقان إلاَّ بالذي يملك الأمر كلّه، من خلال أنه يملك الوجود كلّه، بحيث لا يغيب عنه شيءٌ منه ولا يعجز عن شيء فيه، ولا يعجزه أحدٌ من المخلوقين. ولا سيّما إذا كانت مواقع الرغبة أو الرهبة خارجةً من دائرة الحس وداخلة في دائرة الغيب، مما لا يتمكن أحدٌ من المخلوقين الوصول إليه، كما هي الجنّة والنّار.
 
وإذا كان الأمر كذلك، فلا بُدَّ من وعي مسألة العظمة في عمق مسألة الحاجة، على أساس أنَّ ذلك هو الذي يجعله أهلاً للعبادة، لأنه الذي يرجع إليه في كلّ شيء ولا يُرجَع إلى غيره إلاَّ من خلاله، ولأنه الذي يخاف منه كلّ شيءٍ، ولا يخاف من أحدٍ إلاّ من خلاله.
 
وبذلك يختزن الخوف منه والطمع فيه معنى أهليّته للعبادة، الأمر الذي لا يسيء إلى معنى العبادة بل يؤكدها بطريقةٍ أخرى.
 
وقد جاء في القرآن الكريم التأكيد على استقامة العبادة في هذا الخطّ، وذلك كما في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [السجدة:16] وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَة اللّه قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57].
 
وعلى هذا الأساس، تنطلق التربية الإسلامية لتؤكد على الجانب الإنساني في التطلّعات الذاتية التي يعيشها النّاس في ما يتحرّكون فيه من قضايا وأوضاع، على أساس رغبتهم بما يصلحهم، وخوفهم مما يفسد أمورهم، فإنَّ من الصعب عليهم أن يتجرّدوا من ذلك في حركة وجودهم المنفتح على العنصر المادي، من خلال طبيعة الحسّ المادي في الذات. ولذلك، فقد انفتح الإسلام على هذا الجانب، فلم يُبعد الإنسان عنه، ولم يجعله ضدّ القيمة الروحية، بل وجّهه إلى الارتباط باللّه في مواقع الرغبة والرهبة على مستوى الدنيا والآخرة، وفي ما هي قضايا النعمة والبلاء في الدنيا، وقضايا الجنّة والنّار في الآخرة، على صعيد سلامة الذات في ما تحتاجه وفي ما تخاف منه، ما جعل الحسّ الإنساني الواقعي يلتقي بالقيمة الروحية المنفتحة على اللّه من خلال حركة الحياة في الوجود الإنساني.
 
وهذا هو المنهج الإنساني في تهذيب دوافع الإنسان في العمل بدلاً من إلغائها، ليتحرّك الإنسان من خلال الواقع لا من خلال المثال.
 
* * *
 
ثمرات عملية:
 
وربما كان من فوائد هذا الاتجاه في العبادة، على صعيد الدوافع الذاتية المتصلة بقضايا الإنسان في تطلعاته إلى اللّه، أنه يؤكد الشعور بحضور اللّه الدائم المتحرّك في كلّ مفردات الحياة الإنسانية، من خلال كلّ الحاجات المتفرقة في الحياة اليومية، بشكلٍ شموليٍّ، والتي يحتاج فيها إلى رعاية اللّه وعنايته، لارتباطه باللّه بشكل مباشر أو غير مباشر، فلا يغيب عنه الإحساس باللّه من خلال أنه لا يغيب عن كلّ مواقع حياته التفصيلية في جزئياتها وكلياتها. كما أنَّ ذلك يحرّك المضمون العقيدي في داخل إحساسه، في ما يختزنه في داخل عقله من التدبير الإلهي لكلّ شيءٍ من أمور الإنسان، على أساس علاقة كلّ شيءٍ به، فتنمو العقيدة في دائرة نموّ الحاجات، وتتأكد الطمأنينة النفسية في ذلك كلّه، من خلال الثقة باللّه، الرحمن الرحيم، في حالة الشدّة والعسر. فقد ورد أنه: «من أراد أن يكون أغنى النّاس، فليكن واثقاً بما عند اللّه جلّ وعزّ، وروي: فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يديه»[11]. وبذلك تستريح حاجاته في حركتها في دائرته الشعورية عندما يستريح إيمانه باللّه في دائرته العقيدية والروحية.
 
* * *
 
التوحيد في الاستعانة باللّه:
 
وإذا كانت الآية الكريمة قد أكدت على التوحيد في العبادة، فقد أكدت على التوحيد في الاستعانة. فإذا كان اللّه لا يريد لنا أن نعبد غيره، فإنه لا يريد لنا أن نستعين بغيره، لتكون الاستعانة به وحده.
 
ولكن كيف نفهم معنى التوحيد في الاستعانة باللّه؟
 
فهل نفهم من ذلك أنَّ الإنسان لا يملك الاستقلال في أموره، وبالتالي لا بُدَّ له من الاستعانة باللّه في كلّ شيء، ليكون فعله مظهراً لفعل اللّه، فتكون نسبته إلى اللّه هي النسبة الحقيقية، بينما تكون نسبته إلى نفسه بالطريقة الآلية أو الشكلية؟ أو نفهم من ذلك أنَّ الإنسان يملك القدرة على الفعل، ولكن من حيث ما أعطاه اللّه، مع بقاء الارتباط باللّه مستمرّاً في حركة هذه القدرة في وجوده، فهو الذي يمدّها بالقوّة في طبيعتها، وهو القادر على أن يأخذها منه، فيكون للفعل نسبةٌ إلى اللّه من خلال أنَّ إرادته هي عمق القوّة في قوّة الإنسان وحركته، فلولاه لما وجد ولما تمكن من الحركة، ولما استمرّ في ممارسة إرادته الحركية، كما يكون للفعل نسبةٌ إلى الإنسان الفاعل باعتبار صدوره منه من خلال إرادته المنطلقة من مواقع قوّته الكامنة في طبيعة وجوده؟
 
إننا نفهم المسألة في الخطّ الثاني، لأنَّ الخطّ الأول يلغي عنصر الاختيار في الإنسان، فيبطل الثواب والعقاب على هذا الأساس. أمّا الخطّ الثاني فيؤكد الاختيار كما يؤكد الإرادة الإلهية في المعونة التكوينية في البدء والاستمرار.
 
وهذا ما يريد اللّه للإنسان أن يعيشه في وجدانه العقيدي، وفي إحساسه الروحي، فلا ينحرف به إحساسه بالحركة الإرادية، في وجوده، عن الخطّ المستقيم في العقيدة الذي يحركه نحو الإحساس بفقره إلى اللّه، وحاجته إلى إمداده بعناصر البقاء في حركة وجوده، بحيث يستعين به بمنطق وجوده التكويني الفقير إليه في كلّ لحظة، كما يستعين به بمنطق إحساسه بالعجز الطارىء في كلّ شدّة، ليتأكد عنده الإحساس بالعون التكويني في مسألة الوجود، والعون العملي في مرحلة العجز.
 
* * *
 
التوحيد والحاجة إلى النّاس:
 
ثُمَّ تطرح القضية سؤالاً آخر:
 
كيف يكون التوحيد في الاستعانة باللّه في مقابل الاستعانة بالآخرين، مما يعيشه الإنسان في كلّ لحظة من لحظات وجوده، في القضايا التي لا يستطيع الاستقلال فيها بنفسه، بل يحتاج ـ فيها ـ إلى مشاركة الآخرين، أو في القضايا التي لا يستطيع ممارستها بنفسه، بل يحتاج إلى ممارسة الآخرين لها في حياته؟
 
فهل تكون الاستعانة بالنّاس في هذه أو تلك لوناً من ألوان الشرك العملي باللّه؟
 
وكيف يمكن أن تستمر الحياة بالإنسان في ضوء هذا المنطق التوحيدي إذا حاولنا أن نفهمه بهذه الطريقة؟
 
إنَّ المسألة ـ في الجواب عن هذا السؤال ـ ترتكز إلى العمق الفكري في التصوّر التوحيدي، لا إلى الحركة الفعلية في الواقع العملي للإنسان، إذ من الطبيعي أنَّ الإنسان لا يستغني عن غيره في تفاصيل وجوده، كما لم يستغن عن غيره في أصل وجوده الفعلي الذي كان محتاجاً فيه إلى أبويه، باعتبارهما العنصرين اللذين يدخلان في السبب المباشر للوجود.. وهناك أشياء كثيرةٌ مما لا بُدَّ من أن تصدر عن الآخرين بالمشاركة معه، أو بالانفراد، وقد لا يعقل أن يكلّف اللّه الإنسان بأن يبتعد، بتصوّره العقيدي، عن هذا الخطّ، لأنه ليس مقدوراً له.
 
فلا بُدَّ من أن يكون الأمر منطلقاً من إحساس الإنسان بأنَّ اللّه هو أساس كلّ قدرةٍ، لأنه من مواقع قدرته كانت قدرتنا على من حولنا وما حولنا، في ما منحنا، سبحانه وتعالى، من ذلك. وإذا كنّا نحتاج إلى مباشرة بعض أفعالنا بمشاركة الآخرين أو بواسطتهم، فإننا نشعر بأنَّ اللّه هو الذي هيّأ لنا ذلك، وهو الذي يمنحهم القدرة على فعل ذلك. وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّه رَمَى} [الأنفال:17].
 
فإنَّ المقصود فيها ليس المعنى المباشر للرمي من اللّه سبحانه وتعالى، بل المقصود هو القوّة الحقيقية للعمق الإلهي للإرادة في الأفعال الإنسانية، بحيث يكون اللّه هو الأساس في ذلك كلّه. فإذا توجّه الإنسان، في حاجته، إلى أحدٍ، فإنه يتوجه إلى اللّه، قبل ذلك، ليطلب منه أن يلهمه الاستجابة له، كما يمنحه القدرة عليه، بحيث يكون اللّه هو المقصد في الطلب، ويكون الآخر هو الآلة في حصول الشيء.
 
إنَّ القاعدة في العقيدة الإسلامية التوحيدية، تنطلق من الإيمان بأنَّ كلّ ما في الوجود مظهرٌ لقدرة اللّه، ووسيلةٌ من وسائل تدبيره للكون، فليس هناك استقلالٌ لأحدٍ في ما هو الغنى الذاتي، بل هناك الغنى المستمد من غنى اللّه في ما يتحرّك به كرمه للمحتاجين من عباده. ولذلك، بطل التفويض الذي ينطلق من الفكرة الفلسفية القائلة: «إنَّ اللّه خلق الخلق ثُمَّ فوّض إليهم تدبير أمورهم بأنفسهم، بحيث يخلقون أفعالهم من موقع قدرتهم الذاتية من دون أن يكون للّه دخلٌ في ذلك»، فإنَّ هذه الفكرة توحي بتعدّد الخالق، وانعزال اللّه عن التصرّف في حركة الكون.
 
ومن خلال ذلك، كان الاعتراف بالتوحيد في الاستعانة، يمثّل الإقرار العميق بأنَّ العبد لا يستطيع أن يتحرّك إلاَّ من خلال ما يمدّه اللّه به من معونةٍ، في ما يملكه من شمولية القدرة في كلّ مصادرها ومواردها، سواء كانت متمثّلةً بالقوى البشرية أو الحيوانية أو الجامدة.
 
وهذا ما يؤكد وحدة التوجه إلى اللّه والتوسّل به، ما يجعل الشخصية الإسلامية مرتبطةً به ـ وحده ـ حتى في مواقع حاجاتها الطبيعية المرتبطة، في حركتها الكونية، بقانون السببية، في علاقة الظواهر بأسبابها الكونية أو الاختيارية، فلا تكون الأسباب واسطةً في الإرادة، بل هي واسطةٌ في حركة الوجود في علاقة الأشياء ببعضها البعض.
 
* * *
 
لا واسطة بين العبد وربِّه:
 
وقد نلاحظ في الارتباط الإنساني بوحدانية العبادة والاستعانة في خطاب العبد لربِّه في هذه الآية الكريمة  {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أنَّ الإنسان لا يحتاج، في حديثه مع اللّه، وفي طلبه منه، إلى أية واسطة من بشرٍ أو غيره، لأنَّ اللّه لا يبتعد عن عبده، ولا يضع أيّ فاصل بينه وبينه، إلاَّ ما يضعه العبد من فواصل تبعده عن مواقع رحمته، وتحبس دعاءه عن الصعود إلى درجات القرب من اللّه. ولذا أراد من عباده أن يدعوه بشكلٍ مباشرٍ ليستجيب لهم، وحدّثهم عن قربه منهم بحيث يسمع كلامهم وإن كان بمثل الهمس أو في مثل وسوسة الصدور، وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
 
* * *
 
الشفاعة لا الوساطة:
 
أمّا الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الآيات القرآنية، وفي الرِّوايات المتعدّدة عن السنة والشيعة، فإنها ليست حالة وساطةٍ بالمعنى الذي يفهمه النّاس في علاقاتهم بالعظماء لديهم، الذين قد لا يستطيع النّاس مخاطبتهم بشكل مباشرٍ، بسبب الحواجز المادية الفاصلة بينهم وبين النّاس، ولذلك يلجأ النّاس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودّةٍ أو مصلحةٍ أو موقع معيّنٍ ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم إليهم، وقضاء حوائجهم عندهم.
 
إنَّ الشفاعة هي كرامةٌ من اللّه لبعض عباده، في ما يريد أن يُظهره من فضلهم في الآخرة، فيُشفِّعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده، لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسطةً في النتائج التي يتمثّل فيها العفو الإلهي والنعيم الربّاني، تماماً كما لو كان النبيّ هو السبب، أو كان الوليّ هو الواسطة. ولكنَّها ـ في العمق ـ إرادة اللّه لذلك، مما لا يملك نبيٌّ مرسلٌ، أو ملك مقرّبٌ، أو وليٌّ امتحن اللّه قلبه بالإيمان، أمْرَ تغييرها في غير الاتجاه الذي تتحرّك فيه، وبذلك فإنهم يدرسون مواقع رضى اللّه في عباده ليقوموا بالشفاعة، أو ليأذن اللّه لهم بها.
 
وفي ضوء ذلك، لا معنى للتقرّب للأنبياء والأولياء ليحصل النّاس على شفاعتهم، لأنهم لا يملكون من أمرها شيئاً بالمعنى الذاتي المستقل، بل اللّه هو المالك لذلك كلّه على جميع المستويات، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محدّدة ليس لهم أن يتجاوزوها، الأمر الذي يفرض التقرّب إلى اللّه في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له، أو الطلب إليهم أن يسألوا اللّه في الإذن لهم بالشفاعة لطالبها منهم. وهذا ما نفهمه من آيات الشفاعة في القرآن، التي تؤكد على أنها قضيةٌ تتصل باللّه، فليس لأحدٍ أن يمارسها إلاَّ بإذنه في من ارتضاهم لينالوا عفوه. قال تعالى: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـنِ عَهْد} [مريم:87]. {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْل} [طه:109]. {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
 
وليس معنى «إذْن اللّه» للشفعاء أنه أعطاهم الحرية في ذلك، أو أنه يتقبل منهم ذلك على أساس خصوصيات علاقاتهم، ليتقرّب النّاس منهم بالوسائل الخاصة التي تثير مشاعرهم، وتؤكد علاقتهم بهم بشكل شخصي، كما هي الأشياء الشخصية، بل إنَّ معنى ذلك أنَّ اللّه جعل لهم هذه الكرامة ليستعملوها في ما يوافق رضاه، لأنَّ المفروض أنَّ رضاهم لا ينفصل عن خطّ رضاه، كما أنّ رضاه يتحرّك في آفاق حكمته، لا في آفاق رغبات القريبين إليه بالمعنى الذاتي للمسألة.
 
وفي ضوء ذلك، فإنَّ التشفّع بالأنبياء والأولياء لا يمثّل خروجاً عن توحيد الاستعانة باللّه، لأنه يرجع في الحقيقة إلى طلب المغفرة من اللّه والنجاة من النّار، من خلال ما اقتضته إرادة اللّه وحكمته في ارتباط عفوه بشفاعة هذا النبيّ أو الولي، على أساس ما أراده من حكمته في ذلك، واللّه العالم.
 
* * *
 
إيحاءات الدعاء ودوره التربوي:
 
للدعاء دور تربوي عميق على صعيد التطلع الروحي للإنسان وانفتاحه على اللّه سبحانه وتعالى، بحيث يعيش الإنسان، في أجواء المناجاة، سرَّ التوحيد الإلهي في حركة مشاعره الإنسانية، وفي علاقة حاجاته باللّه وانفصالها عن غيره، في عملية إيحاءٍ داخليٍّ بأنَّ التوجّه إلى غير اللّه في حاجاته، حتى في ما يشبه الخطرات الفكرية أو النزعات الغريزية، يمثّل لوناً من ألوان الإثم الشعوري الذي يسيء إلى الاستقامة الروحية. وهذا ما نتمثّله في دعاء الإمام زين العابدين (ع) في طلب الحوائج إلى اللّه في «الصحيفة السجادية»، حيث يقول:
 
«اللّهم يا منتهى مطلب الحاجات، ويا من عنده نيل الطلبات، ويا من لا يبيع نعمه بالأثمان، ويا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان، ويا من يستغنى به ولا يُستغنى عنه، ويا من يرغب إليه ولا يرغب عنه، ويا من لا تفني خزائنه المسائل، ويا من لا تبدل حكمته الوسائل، ويا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين، ويا من لا يعنّيه دعاء الداعين.
 
تمدّحت بالغناء عن خلقك وأنت أهل الغنى عنهم، ونسبتهم إلى الفقر وهم أهل الفقر إليك، فمن حاول سدّ خلّته من عندك، ورام صرف الفقر عن نفسه بك، فقد طلب حاجته في مظانها، وأتى طلبته من وجهها، ومن توجّه بحاجته إلى أحدٍ من خلقك، أو جعله سبب نجحها دونك، فقد تعرض للحرمان، واستحقّ من عندك فوت الإحسان.
 
اللّهم، ولي إليك حاجة قد قصر عنها جهدي، وتقطعت دونها حيلي، وسوّلت لي نفسي رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك، ولا يستغني في طلباته عنك، وهي زلّةٌ من زلل الخاطئين، وعثرةٌ من عثرات المذنبين، ثُمَّ انتبهت، بتذكيرك لي، من غفلتي، ونهضت، بتوفيقك لي، من عثرتي، وقلت: سبحان ربي، كيف يسأل محتاجٌ محتاجاً، وأنّى يرغب معدمٌ إلى معدمٍ، فقصدتك، يا إلهي، بالرغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك، وعلمت أنّ كثير ما أسألك يسير في وُجدك، وأن خطير ما أستوهبك حقيرٌ في وسعك، وأنَّ كرمك لا يضيق عن سؤال أحد، وأنَّ يدك بالعطاء أعلى من كلّ يد»[12].
 
وهكذا نرى أنَّ هذا الدعاء ينطلق ليركّز في ذهنية الإنسان الفكرة التي تنفتح على الكلّي القدرة، الكريم في العطاء، الواسع في النعماء، الذي لا يضيق كرمه عن سؤال أحد، كما أنَّ يده بالعطايا أوسع من كلّ يد، والذي يُستغنى به ولا يستغنى عنه، ويُرغب إليه ولا يُرغب عنه. كما ينفتح على الإنسان المحتاج إلى ربّه، لأنَّ ذلك ليس شيئاً ذاتياً ينطلق من سرّ الغنى في شخصه، بل هو شيءٌ طارىء، يستمده من عطاء ربّه، في ما يمنحه من قدرة، أو يعطيه من إمكانات.
 
وإذا كان الإنسان؛ كلّ إنسان، في موقع الحاجة إلى اللّه، فكيف يتوجّه الإنسان الواعي إلى مثله ليرفع حاجته إليه، وهل ذلك إلاَّ لونٌ من ألوان الغفلة عن حقيقة الفقر الإنساني أمام حقيقة الغنى الإلهي، بالإضافة إلى أنها زلّةٌ من زلل الخاطئين، وعثرةٌ من عثرات المذنبين، لأنها خطيئةٌ تتصل بالانحراف عن خطّ الاستقامة في التصوّر التوحيدي للإنسان، وبالخلل في الوعي الإيماني للحقيقة الإلهية في معنى وجود الإنسان وحركته، وفي سعة القدرة وشموليتها؟! وهكذا تتبلور لدى الإنسان مسألة الاستعانة باللّه وحده، بعيداً عن الاستعانة بغيره.
 
إنَّ هذا الدعاء يعالج المسألة في الدائرة الفكرية النظرية على أساس إثارة مسألة الحاجة الذاتية لدى الإنسان في جميع مواقعه وأشكاله، لتكون رادعاً عن توجه الإنسان إلى مثله، وغفلته عن توجّهه إلى ربّه.
 
وهناك دعاءٌ آخر، يعالج المسألة في الدائرة الواقعية العملية، على أساس التجربة الحسيّة في مشاهدات الإنسان المؤمن للنماذج البشرية، التي عاشت الانبهار بالقوّة الظاهرية لبعض النّاس، فاندفعت إليهم لتطلب العزة بهم، والرفعة من خلالهم، والثروة بواسطتهم، فكانت النتائج خيبات أمل كبيرة دفعت الإنسان بعيداً عن قضاياه وحاجاته، لأنَّ الذين تطلَّع إليهم، وتوجّه نحوهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلاَّ بإذن اللّه، فكيف يملكون أن يدفعوه عن غيرهم من دون إذنه، وإذا كانت المسألة مرتبطةً باللّه بشكلٍ مباشرٍ، فلماذا يبتعدون عنه، ويق تربون من غيره، في ما لا يملكه أحدٌ إلاَّ هو؟!
 
وهذا هو دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) متفزغاً إلى اللّه، وهو من أدعية «الصحيفة السجادية»:
 
«اللّهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكُلِّي عليك، وصرفت وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمّن لم يستغن عن فضلك... فكم قد رأيت، يا إلهي، من أناسٍ طلبوا العزَّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم حازمٌ وفّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت، يا مولاي، دون كلّ مسؤولٍ موضع مسألتي، ودون كلّ مطلوبٍ إليه وليّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كلّ مدعوٍّ بدعوتي، لا يشركك أحد في رجائي، ولا يتفق أحد معك في دعائي، ولا ينظمه وإياك ندائي. لك، يا إلهي، وحدانية العدد، وملكة القدرة الصمد، ومن سواك مرحومٌ في عمره، مغلوبٌ على أمره، مقهورٌ على شأنه، مختلف الحالات متنقّل في الصفات، فتعاليت عن الأشباه والأضداد، وتكبَّرت عن الأمثال والأنداد، فسبحانك لا إله إلاَّ أنت»[13].
 
إنها النظرة إلى واقع الخاضعين للأقوياء والأغنياء والمستكبرين الذين صغرت نفوسهم أمام مظاهر القوّة والغنى والكبرياء، وانسحقت حاجاتهم أمام مفردات القدرة لدى كلّ هؤلاء، فانطلقوا نحوهم في عملية خضوع واستجداءٍ ليمنحوهم العزّة من خلال عزتهم، فازدادوا ذُلاًّ بذلك، أو ليقدِّموا لهم الثروة من مواقع غناهم، فازدادوا فقراً بذلك، أو ليرفعوهم إلى مواقع السموّ والعلو، من خلال علوّهم، فازدادوا سقوطاً وانحطاطاً.
 
وهكذا كان هذا الواقع مصدر فكرٍ للإنسان المؤمن الواعي، الذي استطاع أن يعرف طريق الرشد والصواب، ليختار السير فيه، وليصل إلى النتيجة الحاسمة في توحيد اللّه على مستوى الألوهية والعبادة والمعونة. ومن خلال هذه التجربة الحيّة، تنفتح للإنسان الواعي الباحث عن الحقيقة آفاقٌ جديدةٌ، فيحرِّكه الواقع من حوله، ليكتشف فيها الكثير الكثير من صدق العناوين الروحية في العقيدة التي تطل على الحياة، لتشير إلى الكثير من مفرداتها التي يتحرّك فيها صدق العنوان في وجود المعنون، وحقيقة المفهوم في واقع المصداق، فلا يتيه الإنسان في أجواء التجريد الفكري، بل يجد في كلّ موقعٍ من مواقع الحياة بعض الحركة التي تتفتّح فيها كلّ مواقع الإحساس لديه بالصدق في الفكر والشعور، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأنّ الروح في معانيه العقيدية ليس غيباً من الغيب، بل هو حالةٌ في ضمير الحياة وإحساس الواقع.
 
* * *
 
الصراط المستقيم:
 
[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] إنها المفردات الحيّة التي تشير إلى الخطّ الإلهي في التطلُّع الإنساني. فهذا الإنسان الحائر في غياهب الظلمات، التائه في صحارى التيه، الغارق في بحار الأوهام، السائر في طريق المجهول، هذا الإنسان المتطلّع إلى مشارق النور في الغيب ليكتشفها في عقله وقلبه وحياته، في انتظارٍ، لا يأكل القلق روحه، بل يملأ الأمل عينيه؛ يناجي ربّه في طفولة الإحساس الروحي بالفقر إليه، والذوبان في مواقع الشوق الباحث عنه. إنه يبحث عن الهدى في معرفة ربّه، ومعرفة مواقع عظمته، ومفردات نعمته، وما يريد له، وما يريده منه، وما يخطط له من خطط، وما يثيره في داخله من أشواق وتطلّعات.
 
إنه يناديه ويناجيه ويدعوه: ها هو عبدك الحائر، فأنقذه من حيرته، الضالّ، فاهده من ضلاله، ووجِّهه نحو الطريق الذي تستقيم فيه النيّة، ويتوازن فيه العقل، ويطمئن له القلب، وترتاح فيه الروح، وتثبت فيه الأقدام.
 
ولا بُدَّ لنا من أن نقف أمام هذه الكلمات وقفة تأمّلٍ.
 
الهداية: الدلالة بلطف ـ كما في مفردات الراغب للأصفهاني ـ أمّا هداية اللّه تعالى للإنسان، فيقول: إنها على أربعة أوجه:
 
الأول: الهداية التي عمّ بجنسها كلّ مكلّفٍ من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعمّ منها كلّ شيء بقدر ما فيه حسب احتماله كما قال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
 
الثاني: الهداية التي جعل للنّاس بدُعائه إيّاهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا[ [السجدة:24].
 
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمَّد:17] وقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللّه يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللّه} [التغابن:11] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9] وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ} [العنكبوت:69] {وَيَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى} [مريم:76] [ فَهَدَى اللّه الَّذِينَ ءَامَنُو} [البقرة:213]، {وَاللّه يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
 
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنّة المعنيّ بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمَّد:5]، {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} إلى قوله: {الْحَمْدُ للّه الَّذِى هَدَانَا لِهَـذَ} [الأعراف:43][14].
 
الصراط: الطريق، وهو ما يتوصل بالسير فيه إلى المقصود، وقد يكون غير حسّي، فيُقال: الاحتياط طريق النجاة، وإطاعة اللّه طريق الجنّة. وإطلاقه على الطريق غير الحسيّ إمّا لعموم المعنى اللغوي، وإمّا من باب التشبيه والاستعارة[15].
 
وفي هذه الآية دعاءٌ إلى اللّه، يرفعه الإنسان المؤمن إلى ربّه ليدلَّه إلى الطريق المستقيم الذي يؤدِّي به إلى رضوانه في مواقع النعيم المنفتح على جنّته.
 
ولعلّ من الواضح أنَّ الهداية بالمعنى التكويني من لوازم وجوده، في ما منحه اللّه من عقلٍ وحسٍّ وقدرةٍ، كما أنَّ الهداية، في مضمونها الرسالي، في ما أرسل اللّه به الرسل من رسالاته في ما هي المفاهيم الأساسية للعقيدة والحياة، هي الحقيقة الرسالية المتحركة في الواقع وفي الوعي؛ ويبقى للهداية معناها الروحي المتمثّل بالتوفيق واللطف الإلهي الذي يثير في نفس الإنسان الأفكار والمشاعر والأجواء، التي تفتح عقله وقلبه على الحقّ والخير في الالتزام بالخطّ الإلهي، في النهج والأمر والنهي في دائرة الإيمان، مضموناً وحركةً وانفتاحاً على اللّه في أوسع الآفاق. وبذلك، تكون الهداية إلى جنّته نتيجةً طبيعية لذلك، لأنَّ ذلك ما يجعل خطّ السير في الآخرة نحو النجاة مفتوحاً بكلّ رحابته وامتداده، لأنَّ خطوط الآخرة في حركة الإنسان في سلامة المصير، تبدأ من خلال المضمون الإيماني العملي في خطوط السير في الدنيا نحو اللّه.
 
إنه نوعٌ من أنواع التطبيق العملي للاستعانة باللّه، لأنَّ الإنسان قد ينحرف في تفكيره عن وعي الإيمان في حقيقته الرسالية، فيضلّ عن طريق اللّه في تصوّراته والتزاماته الفكرية والروحية، كما أنه قد يخضع لشهواته وأهوائه في الابتعاد عن الخطّ المستقيم، وفي عدم الانضباط في الالتزام بأوامر اللّه ونواهيه. وبذلك يلتفت الإنسان إلى ربه ليستعين به على تثبيت إرادته، واستقامة فكره، حتى لا يخطىء في تصوّراته، ولا ينحرف في خطواته، ولا يهتزّ في مواقفه، من خلال ألطاف اللّه بعباده، في ما يثيره في داخل شخصياتهم من المعاني الخفيّة التي تدفعهم إلى خطّ السلام الروحي المنفتح عليه. فهي مرشدة ـ في الخطوط الحركية ـ الإنسان إلى الطريق المستقيم، حتى لا يشتبه عليه الحقّ والباطل، ولا تختلط عليه صور الأشياء في ما يبتعد عنه وضوح الرؤية.
 
ولعلّ هذا الوجه أكثر رجحاناً من التفسير القائل بأنَّ المراد استمرار الهداية التي بدأها اللّه في ما هو الخطّ التكويني في عناصر الهداية، أو في ما هو الخطّ الرسالي في مضمون الهداية، لأنَّ ذلك خلاف الظاهر، فإنَّ الظاهر منه هو إرادة المبدأ، الذي يُراد من اللّه إفاضته على عباده لا استمرار ما هو موجود. وهكذا نجد في هذا الطلب الإنساني الابتهالي حركةً روحية عباديّةً تعبّر عن الرغبة العميقة في الوصول إلى اللّه من خلال طريقه المستقيم، انطلاقاً من الحاجة إلى الرعاية الخاصة في الدلالة إلى مواقع هذا الطريق، بالوسائل التي يرسل اللّه فيها ألطافه إلى عباده، من خلال ما هي إيحاءات الفكر، وهمسات المشاعر، وإشارات الروح.
 
ولعلّنا لا نحتاج إلى المزيد من التأكيد على أنَّ هذه الهداية التي يفيضها اللّه على عباده ليست حالةً تضغط على العقل لتشلّ اختياره، وعلى الإرادة لتجمّد حركتها، بل هي لطفٌ إلهيٌّ يهيّىء الجوّ للاختيار الصحيح من خلال الانفتاح على اللّه في مواقع رضاه من موقعٍ قويٍّ منفتحٍ.
 
* * *
 
طريق الأنبياء:
 
ولكن كيف نتصوّر الصراط المستقيم، الذي هو خطّ معنويٌّ يتحرّك فيه الإنسان في نشاطه الإنساني على مستوى المواقف وحركة المواقع والعلاقات؟
 
إنَّ النظرة إلى الآيات القرآنية توحي بأنَّ المراد هو الخطّ الذي تتحرّك فيه أوامر اللّه ونواهيه، وتتمثّل فيه مناهجه، وتنطلق منه مواقع رضاه، وفقاً لما جاء به رسله، ونزلت به رسالاته. وبذلك يمكن تلخيصه بطريق الأنبياء، وهو الإسلام الذي يتمثّل في إسلام القلب والوجه واللسان والكيان كلّه للّه.
 
ضمن هذا الإطار، تكون الاستقامة على الصراط منطلقةً من معنى الطاعة التي تحكم البداية والنهاية في خطّ اللّه، بعيداً عمّا يتحدّث فيه المتحدّثون الغارقون في تحليل مضمون الإسلام، لجهة ما يتمثّل فيه من التوازن التشريعي في نظرته إلى الإنسان والحياة، فيما هي الدنيا والآخرة، والمادة والروح، والفرد والمجتمع، وما إلى ذلك من الشؤون العامة أو الخاصة، التي تنطلق في خطّ مصلحة الإنسان في علاقته باللّه، وبالكون، وبمن حوله من النّاس، بحيث لا يطغى جانب على جانب.
 
إنَّ التأكيد على خطّ الاستقامة ينطلق من الخضوع للخطّ الإلهيِّ الرسالي، فلا ينحرف الإنسان عنه، ولا يتمرّد فيه على أوامر اللّه ونواهيه.
 
أمَّا الاستقامة في المضمون، فإنها تنطلق من حركة المصلحة التي أراد اللّه لها أن تشمل كلّ حياة الإنسان في مفردات التشريع، بحيث يشعر بأنَّ حياته مع الشريعة تنطلق في وضع طبيعيٍّ، وحركةٍ موزونةٍ، لا تبعد به عن سلامته الروحية والجسدية، في حياته الفردية والاجتماعية.
 
وهذا ما تختزنه كلّ الرسالات التي أنزلها اللّه على رسله، ليبلِّغوها عباده، ليقوم النّاس بالقسط، لأنَّ اللّه أراد من الإنسان أن يصل إلى مستوى الكمال في خطّ التوازن في حاجاته ومصالحه.
 
ولعلّ الفكرة تزداد وضوحاً إذا قرأنا الآيات التي تحدّثت عن الصراط المستقيم. قال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] والملحوظ أنَّ الإشارة متعلّقةٌ بما ورد في الآيتين السابقتين في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} في الآيتين (150 و 151) من سورة الأنعام.
 
وقال تعالى في حديثه عن إبليس في خطابه للّه: {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16ـ17].
 
فإنَّ الشيطان يتحدّث عن الحاجز الذي يضعه أمامهم في خطّ الصراط المستقيم لينحرف بهم عنه، فلا يشكرون اللّه في ما يتمثّل فيه ترك الشكر من تجسيد الانحراف عن طاعة اللّه التي هي المضمون الحي للصراط المستقيم.
 
قال تعالى: {وَهَـذَا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلَـمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف:126ـ127].
 
فالظاهر من الإشارة أنَّ المقصود بها النهج الإلهي في العقيدة والشريعة والمنهج الذي يقود النّاس السائرين عليه إلى دار السَّلام التي هي الجنّة في الآخرة. قال تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّه فَقَدْ هُدِي إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101]. فإنَّ الاعتصام باللّه هو السير في خطّ الإيمان به وبرسله وبرسالاته، ما يوحي بأنَّ الخطّ المستقيم هو حركة الإنسان في هذا الاتجاه.
 
قال تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللّه نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللّه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة:15ـ16].
 
فالقرآن الذي يمثّل النور الذي يشرق في عقل الإنسان وقلبه وحياته، يمثّل الكتاب الواضح الهادي للذين يتبعون رضوانه إلى سبل السَّلام الروحي والعملي، والدافع لهم إلى الجانب المشرق من الحياة في ما يأذن اللّه به من إخراجهم من «الظلمات إلى النور»، ويهديهم إلى «الصراط المستقيم» الذي يؤدي بهم إليه، فيما هو خطّ السير المتحرّك بين البداية والنهاية. قال تعالى: {قُلْ إنّني هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161ـ163].
 
وهذه الآيات واضحة الدلالة على أنَّ الصراط المستقيم هو دين اللّه الذي يجسد التوحيد في إسلام الوجود الإنساني للّه وحده، ليكون الإسلام هو الانتماء الوحيد، الذي يتمثّل فيه الكمال الإنساني في وجوده الفكري والحركي.
 
وهكذا نجد أنَّ الصراط المستقيم، الذي ندعو اللّه أن يهدينا لنسير نحوه، هو دين اللّه الذي أنزله على رسوله في كتابه، وفي ما أوحى به إليه من شريعته ومن منهجه الحقّ، الذي أراد اللّه لنبيه الاستقامة عليه في خطّ الدعوة إليه من دون تغيير ولا تبديل، كما جعل الجنّة للنّاس الذين يعلنون التوحيد ثُمَّ يستقيمون في خطّه على أساس توحيد اللّه في العبادة.
 
وقد جاء عن عليّ (ع) في تفسيره هذه الآية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يعني: أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارن[16].
 
وعن الإمام جعفر الصادق (ع): يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدِّي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك[17].
 
* * *
 
مستحقو النعم:
 
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ} هذا هو التحديد الواقعي لهذا الصراط في النماذج التي تتحرّك فيه وتلتزمه، في ما يتمثّل فيه من النعمة الإلهية التي يفيضها اللّه على عباده، وأيّ نعمة أعظم من نعمة الهداية إلى الحقّ الذي يؤدي بهم إلى رضوان اللّه، وإلى نعيمه في جنته الخالدة! وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آية أخرى، عند الحديث عن الذين أنعم اللّه عليهم في النماذج الحيّة المتحركة في خطّ توحيد اللّه وطاعته، وذلك قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مِّنَ النبيّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيق} [النساء:69] وهذا يعني أنَّ الصراط المستقيم هو صراط هؤلاء الذين أنعم اللّه عليهم ممن رفع اللّه درجتهم في خطّ الإسلام والإيمان باللّه والسير في مواقع رضاه.
 
* * *
 
المغضوب عليهم والضّالون:
 
وفي مقابل هؤلاء، هناك فريق «المغضوب عليهم» الذين اختاروا الكفر على الإيمان، والشرك على التوحيد، والمعصية على الطاعة، والانحراف على الاستقامة، مع وضوح الحجّة على الإيمان في إشراقة العقل، وعلى التوحيد في حركة الفكر، وظهور الخير في حركة الطاعة في خطّ الاستقامة على درب اللّه، فلم يبتعدوا عن الصراط المستقيم انطلاقاً من شبهةٍ، بل ابتعدوا من موقع العناد والإصرار على التمرّد والتحدّي للّه في مواقع ألوهيّته، فاستحقوا غضب اللّه عليهم لأنهم لا يملكون أساساً عقليّاً لموقفهم المعاند المتمرّد، بل هناك الأساس المضادّ للإنسانية العقلانية التي تفرض الخضوع للحقّ الثابت بالحجّة الواضحة، والالتزام بكلّ النتائج المترتبة عليه، ما يجعل من الغضب المنفتح على العقاب الأخرويّ نتيجةً طبيعيّةً لذلك، فيما هي العلاقة بين السبب والنتيجة.
 
وهناك فريق الضالّين الحائرين بين الكفر والإيمان، لأنهم عاشوا الغفلة عن مسألة الفكر العقيدية في مجالات التوحيد، والرسالة واليوم الآخر، واستسلموا للأفكار الموروثة التي عاشوا قداستها من خلال قداسة العلاقة بالآباء والأجداد، أو من خلال استغراقهم في المألوف من أفكار البيئة التي عاشوا فيها، في عملية انجذاب لكلّ الأوضاع المتحرّكة في داخلها أو المحيطة بها، وتأثروا بكلّ المشاعر المتنوّعة في مؤثراتها النفسية وبكلّ الإيحاءات المختلفة في أبعادها الذاتية، الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى كلّ ذلك، كما لو كان هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ثُمَّ تتطور المسألة إلى ما يشبه التعصب الذي يرفض الرأي المضاد كما يرفض التفكير فيه، لأنه لا يريد أن يبتعد عن المألوف من الفكر الذي تربّى عليه، أو لا يريد أن يتعب نفسه بالتفكير في ذلك، بل يواجه المسألة بطريقة اللاَّمبالاة على أساس الاسترخاء الفكري والعاطفي.
 
وهؤلاء الضالّون لا يملكون الحجّة على ضلالتهم، لأنَّ اللّه خلق لهم عقولاً، وأراد لهم أن يحرّكوها في عملية إنتاج الفكر الذي يهدي إلى الحقّ، وخلق لهم أسماعاً وأبصاراً وألسنةً، يستطيعون من خلالها أن يملكوا الوسائل التي توصلهم إلى معرفة المفردات الكونية والإنسانية، والتي ينطلقون من خلالها إلى الإيمان باللّه ورسله واليوم الآخر، كما أرسل إليهم رسلاً يبلِّغونهم رسالات اللّه في الدائرة التي يمكن للعقل أن ينحرف فيها عن الصواب، أو التي لا يملك خلالها الوسائل الطبيعية لمعرفته بشكلٍ مباشرٍ، وأودع في كيانهم قلق المعرفة الذي يدفعهم للبحث والتأمّل عند إثارة الشك أو الاحتمال في داخلهم، بحيث يشعرون بالتقصير عندما يتجمّدون أمامه، ولا يتحرّكون للتعرّف على طبيعة المضمون الذي يثيره في آفاق النفس إزاء الواقع.
 
* * *
 
الثقافة المتحركة:
 
وهكذا تمثّل هذه الفقرة من السورة جولة أفق فكريّةً وشعوريّةً في مواقع النّاس الذين يتحرّكون بطرقٍ مختلفة أمام مسألة الالتزام بالفكر الحقّ، سلباً أو إيجاباً، ليحدّد الإنسان موقعه الفكري والعملي في عملية إيحاءٍ ذاتي يتلمّس فيها قضايا الحقّ ليختزنها في داخل كيانه، فيرفعها إلى ربّه مبتهلاً إليه بأن لا يجعله من السائرين في الطريق التي تؤدي إلى غضبه، ولا يتركه مع السائرين في متاهات الضلال في الطريق التي لا يملك فيها الملامح التي تؤدي به إلى النتائج الحاسمة في المصير، بل يجعله من الذين عاشوا نعمة السير في الطريق المستقيم في ألطاف الهداية الإلهية.
 
وهذا ما يدفعه إلى البحث الدائم عن الواقع الذي يحيط به، ليميّز بين الطريق المستقيم والطريق المنحرف، وليتعرف كيف يسير النّاس من حوله، ما يجعل عنده ثقافةً متحركةً على صعيد أفكار النّاس وأوضاعهم، لأنَّ الذي لا يعرف الخطّ المنحرف، أو الخطّ الضائع، لا يستطيع أن يعرف الخطّ المستقيم.
 
* * *
 
من هم المغضوب عليهم والضالون؟
 
ورد في بعض الرِّوايات، أنَّ المغضوب عليهم هم اليهود وأنَّ الضالين هم النصارى. ولكن ذلك لا يحصر مداليل السورة في هذين النموذجين من النّاس، لأنَّ ذلك قد يكون على نحو المثال، كما هي طريقة القرآن في مواقع النزول للآيات، في ما تتحدّث عنه روايات أسباب النزول. وقد ورد أنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر، فلا يتحدّد في المنطقة التي ينزل فيها، ولا في الشخص الذي ترد فيه.
 
وربما كان ذكر اليهود، كمثالٍ للمغضوب عليهم، ناشئاً من الصورة المتكررة التي أبرزها القرآن لهؤلاء النّاس في نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، وكتمانهم لما أنزله اللّه من الحقّ على رسوله في كتابه، ونحو ذلك من القضايا التي تجعلهم يستحقّون غضب اللّه عليهم؛ بينما كان النصارى متميّزين بالصفات الطيّبة، باعتبار أنَّهم أقرب النّاس مودّةً للذين آمنوا {ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، وأنهم {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83] حزناً، ولكن مشكلتهم أنهم انحرفوا عن الرسول فلم يؤمنوا به، وأنّهم قالوا إنَّ اللّه ثالث ثلاثة، ونحو ذلك من التصوّرات الخاطئة في العقيدة، ولم يتحدّث عنهم بطريقةٍ قاسيةٍ كالطريقة التي تحدّث بها عن اليهود الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا، بالإضافة إلى المشركين.
 
ومن خلال ذلك، نستطيع أن ننفتح على التيارات الفكرية المضادة للإسلام التي يمكن إدراجها تحت عناوين دوائر المغضوب عليهم والضالين، تبعاً لنوعية الحالة النفسية، والسلوك العدواني، بالإضافة إلى الخطأ والانحراف في العقيدة.
 
وهذا ما ينبغي للدعاة إلى اللّه أن يواجهوه في خطّ التربية في توعية النّاس حول النماذج المضادّة للتفكير الإسلامي، فلا يكون الموقف واحداً، بل لا بُدَّ من أن نفرّق بين الحالات العدوانية التي تتحول ـ في بعض الأحوال ـ إلى حالةٍ عنصريةٍ، وبين الحالات العادية في الخلاف الفكري التي يمكن أن تتحول إلى حالةٍ من اللقاء القائم على مواطن الاتفاق، ليكون ذلك مدخلاً إلى الحوار في مواطن الخلاف، الذي يفضي بدوره إلى نوعٍ من الوفاق في غياب الحالة النفسية المتشنّجة المعقدة.
 
* * *
 
موقع الفاتحة من الصلاة:
 
جاء في عيون أخبار الرضا للصدوق عن الإمام الرضا (ع)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) قال: لقد سمعت رسول اللّه (ص) يقول: قال اللّه عزَّ وجلّ: «قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: [ بِسْمِ اللّه الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ] ، قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقٌّ علي أن أتمّم له أموره، وأبارك له في أحواله، فإذا قال: [ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ] ، قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنَّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه بتطوّلي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال: [ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ] ، قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم، أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظه، ولأجزلن من عطائي نصيبه، فإذا قال: [ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ، قال اللّه تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيئاته، فإذا قال: [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ] ، قال اللّه عزَّ وجلّ: صدق عبدي، إياي يعبد، أشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: [ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ، قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي وإليّ التجأ، أشهدكم لأعيننّه على أمره، ولأغيثنّه في شدائده، ولآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] إلى آخر السورة، قال اللّه عزَّ وجلّ: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل، وآمنته مما منه وجل»[18].
 
وفي هذا الحديث إشارة إلى الأجواء التي تمثّلها السورة في علاقة العبد بربّه، وعطف الربّ على عبده، وحركة الآيات في وعي الإنسان ـ في ذلك كلّه ـ أنه يعيش مع اللّه في كلّ آفاقه المنفتحة على الدنيا والآخرة، وفي كلّ مواقع حركة النّاس في خطّ الاستقامة أو في خطّ الانحراف، ليكون الرزق من اللّه، ولتكون الهداية منه، فيشعر بالنعمة المادية في حياته الجسدية، وبالنعمة المعنوية في حياته العقلية والروحية.
 
وبذلك كانت سورة الفاتحة أمّ الكتاب، ونقطة الوعي، ومفتاح العقيدة في كلّ مواقع الإنسان في الحياة. وهذا هو الذي جعلها أساساً لكلّ صلاة، حتى جاء أنه «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب».
 
* * *
 
دور الصلاة:
 
وهذا ما جعل من الصلاة الإسلامية أسلوباً عقلياً من أساليب التثقيف الفكري فيما هي العقيدة، وأسلوباً روحياً من أساليب التربية الروحية فيما هو الإيمان، وحركة منفتحة على اللّه فيما هي مشاعر التوحيد في العبادة، وحركة الحاجات في الحياة، حتى يشعر الإنسان بارتباطه باللّه من موقع حاجاته، كما هو مرتبط به من موقع إيمانه ووجوده. وهذا ما جعل من الصلاة عموداً للدِّين، باعتبار أنَّ مضمونها الفكري، في القراءة والذكر والركوع والسجود، يمثّل نهجاً للتربية الفكرية والروحية والعملية في الحياة.
 
(1) الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء، ط:6، 1412 هـ ـ 1992م، ص:429 ـ 430.
 
(2) شلتوت، محمود، تفسير القرآن الكريم، ص:26.
 
(3) م.ن، ص:17.
 
(4) البيان في تفسير القرآن، ص:438 ـ 439.
 
(5) البيان في تفسير القرآن، ص:453.
 
(6) الصحيفة السجادية، دعاء الصباح والمساء.
 
(7) البحار، م:14، ج:44، ص:670، باب:37.
 
(8) م.ن، م:32، ج:90، ص:273، باب:128.
 
(9) نهج البلاغة، قصار الحكم/237.
 
(10) مرآة العقول، باب النية، ج:2، ص:101، الطبعة القديمة.
 
(11) البحار، م:24، ج:68، ص:440، باب:86، رواية:17.
 
(12) الصحيفة السجادية، دعاء الإمام زين العابدين(ع) في طلب الحوائج إلى الله تعالى.
 
(13) الصحيفة السجادية، دعاؤه متفزعاً إلى الله عز وجل.
 
(14) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص:536.
 
(15) البيان في تفسير القرآن، ص:485.
 
(16) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط:1، هـ ـ 1991م، ج:1، ص:41.
 
(17) م.ن، ج:1، ص:41.
 
(18) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:1، ص:41 ـ 42.