تفسير القرآن
النساء / من الآية 8 إلى الآية 10

 من الآية 8 الى الآية 10

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}(8ـ10).

* * *

معاني المفردات

{الْقِسْمَةَ}: من القسم: وهو إفراز النصيب، وقسمة الميراث، تفريقه على أصحابه المستحقين له.

{أُوْلُواْ الْقُرْبَى} قرابة الميت، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} يتاماهم ومساكينهم الذين يأملون أن تعطوهم شيئاً من التركة.

{فَارْزُقُوهُمْ}: أعطوهم.

{مَّعْرُوفاً}: حسناً غير خشن.

{ضِعَافاً}: وهم الذين لا وليّ لهم.

{سَدِيداً}: السليم من خلل الفساد وأصله: من سدّ الخلل أي صواباً مستقيماً.

{وَسَيَصْلَوْنَ}: سيلزمون السعير أي يقاسون حرّها.

{سَعِيراً }: بمعنى مسعور، والسعر اشتعال النار.

* * *

أكل أموال اليتامى ظلماً

في الآية الأولى توجيهٌ للأولياء أو الورثة في الحالة التي يجلسون فيها لتقسيم التركة، ويحضر معهم الفقراء من أولي القربى واليتامى والمساكين، بأن يمنحوهم من التركة شيئاً لما في ذلك من مواجهةٍ لحاجاتهم وتثبيتٍ لقلوبهم، وأن لا يسيئوا إلى كرامتهم بل يقابلوهم بالكلمات الطيبة والقول المعروف الذي يريد الإسلام للمسلم أن يفتح به قلب الإنسان المحروم، ويبعث في نفسه الشعور بالثقة والكرامة.

وقد اختلف المفسرون في أن الآية محكمة أو منسوخة بآية المواريث، ولكن الرأي الأرجح هو أنها محكمة لاختلاف الموضوع في الآيتين مما لا يدع مجالاً لفكرة النسخ، فإن هذه الآية ظاهرةٌ في إعطاء هذه الفئات من التركة من قبل أصحابها الورثة، وليست واردة في منحهم ذلك على أساس أنهم أصحاب حق أصيل، واختلفوا أيضاً في أن الأمر على سبيل الوجوب أو الندب، ولكن الظاهر هو الثاني من خلال سياق الفقرة الأخيرة من الآية.

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} أي قسمة التركة في حالة التوزيع على الورثة {أُوْلُواْ الْقُرْبَى} ممن لا نصيب لهم في الإرث وهم أقرباؤه الفقراء، بقرينة ذكرهم في سياق اليتامى والمساكين، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} أي يتاماهم ومساكينهم الذين يأملون في اجتماعهم حول الورثة منحهم شيئاً من التركة بنحو الإحسان، {فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ} أي من المال الموروث.

وقد اختلف الرأي في المخاطبين بهذا الأمر، فقيل: إن المخاطبين بذلك هم الورثة الذين يريد الله منهم أن يرزقوا هؤلاء الفقراء من الأقرباء واليتامى والمساكين شيئاً من نصيبهم صدقةً وإحساناً. وقيل إن المخاطبين الناس الذين تحضرهم الوفاة فيجتمع حولهم هؤلاء ممن لا نصيب لهم في الميراث ليوصوا لهم بشيء من التركة، فأراد الله لهم منهم القيام بالإيصاء إليهم، والظاهر أن الوجه الأول أقرب للسياق لأن الحديث يتركز في حالة حضورهم قسمة التركة. وهذا مما لا يتناسب مع الوجه الثاني لأن حالة الاحتضار ليست حالة القسمة، حتى لو كان الميت يريد الوصية لبعض الناس، فهو لا ينطبق عليه عنوان القسمة الواردة في حالة الشركة الحاصلة بعد الموت من خلال الإرث. {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وذلك بالكلمة الطيبة التي لا ترهق كرامتهم ولا تسيء إلى إنسانيتهم لأن الله لا يريد للناس الإساءة إلى هذه الفئات المحرومة بالقول وبالعمل.

أما الآية الثانية، فقد عالجت بعض الحالات القلقة، عندما يترك بعض الناس أولاداً صغاراً ضعافاً؛ وربما يستغلُّ الأولياء السلطة على الأولاد بطريقةٍ سيئّةٍ فيسيئون إليهم، ويواجهونهم بالقهر والقسوة والإذلال، ويتصرفون في أموالهم تصرفاً غير شرعي، فجاءت هذه الآية لتعالج هذه الناحية من موقع إثارة العاطفة الذاتية في ما يمكن للإنسان مواجهته في هذه التجربة في أولاده الذين قد يتركهم للآخرين، وهم ذريةٌ ضعافٌ، كما ترك الآخرون ذريتهم له، فإذا أحسن التصرف مع أولاد الآخرين، كان ذلك موجباً لإحسان الآخرين لأولاده من بعده، وإذا أساء، كانت النتيجة إساءةً لعقبه من بعده. وقد أجملت الآية المسألة بكلمتين: التقوى، التي تمثل الممارسة العملية على خط الله؛ والقول السديد، الذي يمثل الكلمات الطيبة الصادقة في التوجيه والإحسان.

* * *

الانحراف لدى الأفراد قد يتحول إلى انحراف عام

وقد أثار بعض الناس سؤالاً: إذا أساء إنسان ما التصرف في أولاد الآخرين، فما ذنب عقبه، ليبتليه الله بأناس يسيئون التصرف معهم من بعده، والله يقول: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام:164]؟

والجواب عن ذلك: أن المسألة تنطلق من قاعدة اجتماعية، وهي أن السلوك المنحرف من بعض أفراد المجتمع، في موقع من المواقع، يتحول تدريجياً إلى وضع اجتماعي عام، قد ينقلب عليه أو على من يتعلق به في نهاية المطاف؛ كما أن السلوك الجيد المستقيم يتحرك في خط المصلحة له ولمن بعده، من خلال النتائج الإيجابية التي يحققها للمجتمع ككل. وربما كان هذا هو المعنى الذي نستوحيه من قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]. والحديث المأثور عن النبي(ص): «لتأمُرُن بالمعروف، أو لتنهنّ عن المنكر، أو ليسلطنَّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»[1]. فإن طبيعة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلى تسلّط الأشرار على الأخيار، لامتداد الشرّ، بامتناع الناس من الوقوف بوجهه وملاحقته؛ واستسلامهم للأمر الواقع، فيتحوّل الأشرار إلى قوّةٍ في المجتمع، ويعيش الأخيار في مراكز الضعف.

وقد جاء في الحديث الشريف عنه(ع)، في الوجه الإيجابي من المسألة: «وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم...»[2]. فإن رعاية الأيتام من قِبَلِنا يترك تأثيره على المجتمع، ليعود ـ بعد ذلك ـ في حجم الظاهرة الاجتماعية التي نستفيد منها ـ في نهاية المطاف ـ في أنفسنا وأولادنا. وربما نستوحي ذلك من الكلمة المأثورة: «كما تكونون يولّى عليكم»، فإن المجتمع إذا كان خيّراً، فإن الولاة سوف يخرجون إلى الولاية متّسمين بأخلاق المجتمع وصفاته الحسنة؛ أما إذا كان شريراً، فإن أخلاق الشر هي التي تصبغ شخصيتهم، فيسيئون إلى المجتمع من خلال الجو الذي شارك في تربيتهم السلبية؛ فإن شخصية القيادة هي غالباً النتيجة الطبيعية للواقع الاجتماعي في المفاهيم والتربية والأوضاع، وبهذا نفهم هذه الآية الكريمة، على أساس أن السلوك المنحرف في أيتام الآخرين يوحي للمجتمع بالسير في هذا الاتجاه، لأن الخطوة الأولى من شخصٍ أو أشخاصٍ تتبعها خطوة أو خطوات من غيره، فليتقوا الله في ذلك من موقع المسؤولية من جهة، ومن موقع الشعور العاطفي تجاه ذريتهم؛ وليقدّموا العمل الإيجابي من خلال الاهتمام والتحنّن على أيتام الآخرين، لينعكس ذلك على تصرف الآخرين تجاه أيتامهم في المستقبل، لما يحققه ذلك من وضع اجتماعي منسجم وشامل في نهاية المطاف.

اتقوا الله في اليتامى

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} ليفكر هؤلاء الذين يتولون شؤون الأيتام ممن قد تدفعهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة في أموالهم والإساءة إلى مشاعرهم وتحطيم نفسياتهم بالتعسف والقسوة، ماذا لو فارقوا الحياة وخلفوا وراءهم أيتاماً ضعافاً لا يملكون أيّ عنصرٍ من عناصر القوة الذاتية في حماية أنفسهم وأموالهم؟ ألا يخشون على مستقبلهم ويعيشون القلق عليهم والخوف من إهمال الآخرين من الأولياء لهم وأكلهم لأموالهم مما يجعلهم في قبضة الضياع والفساد؟ فإذا كانوا يعيشون هذا الهاجس النفسي ـ وهم أحياء ـ فإن عليهم أن يتصوروا واقع الأيتام في ولايتهم ممن فقدوا رعاية الآباء فيعيشوا الرحمة لهم والعطف عليهم والتوفر على رعايتهم وحفظ أموالهم من أنفسهم ومن غيرهم، فإن للقضية بُعدين.

البُعد الأول: هو مسؤوليتهم الشرعية الإنسانية عنهم باعتبار ارتباط حياتهم في حركة طفولتهم في اتجاه المستقبل بمسؤوليتهم أمام الله والناس مما يجب عليهم القيام بها بكل أمانة وإخلاص.

البُعد الثاني: أن سلوكهم في اتجاه الأمانة في العناية بالأيتام يتحوّل ـ بانضمام أولياء الآخرين إلى ذلك ـ إلى سنّةٍ اجتماعيةٍ تترك نتائجها الإيجابية على الواقع كله فيمتد إلى أيتامهم في المستقبل في رعاية الآخرين لهم، تماماً كما هي السُنّة الحسنة التي يبدأ الإنسان في السير وفقها فيستفيد منها في القضايا المنفتحة عليها. {فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ} في هذه الأمانة الإلهية التي حمّلهم الله مسؤولياتها وليراقبوه في ذلك كله إذا دعتهم النفس الأمارة بالسوء إلى الخيانة، ووسوس لهم الشيطان باستغلال قدرتهم الذاتية على التصرف المطلق في أموال اليتيم ليدفعهم إلى أكلها بدون حق، {وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} منفتحاً على البرنامج الشرعي في التجربة العملية والانفتاح الواعي، والعاطفة النقية والكلمة الطيبة الحلوة، التي تغمر اليتيم بالمشاعر الحميمة التي توحي له بالثقة وتدفعه إلى الاطمئنان، وتعوّضه عما فقده من حنان الأبوة أو عاطفة الأمومة.

وقد جاءت الآية توجيهاً لكل الناس في رعاية اليتامى بأمانةٍ وإخلاصٍ حتى الذين ليس لهم ذريةٌ يخافون عليهم، لأن المسألة جارية على طريقة ضربَ المَثَل في الفرضيّات الواقعية في حركة الإنسان في الحياة التي تؤكد الترابط في السلوك الاجتماعي من خلال التزام الناس بالقيمة الأخلاقية في العناية بالفئات الضعيفة المحرومة في المجتمع من موقع المسؤولية الدينية والإنسانية، فإن القضية في سلبياتها وإيجابياتها تنعكس على واقع الناس بأجمعهم سلباً أو إيجاباً بشكل مباشر أو غير مباشر، الأمر الذي يوحي بأن الخير أو الشر الصادر من الإنسان لا يؤثر في حياة الآخرين، بل يمتد إلى حياة الإنسان نفسه في كل واقعه وفي كل علاقاته العامة والخاصة.

* * *

وقد جاءت الآية الثالثة لتعالج هذه المسألة من زاويةٍ أخرى، وهي زاوية الترهيب والتهديد؛ فإن الله ينذر هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وبدون حق، انطلاقاً من القوة التي يشعرون بها تجاه ضعف اليتيم الذي لا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه، كما يحدث في حالات كثيرة، بأن هذه الأموال ستتحول إلى نارٍ تحرق داخلهم؛ وذلك على سبيل الكناية في ما ينتظرهم من نتائج سلبية في الدنيا والآخرة.

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَامَى ظُلْماً} فيحوزونها لأنفسهم، ويتصرفون بها في حياتهم الخاصة مستغلّين ضعف اليتيم وفقدان الجهة التي تراقبهم وتحاسبهم وتمنعهم من ذلك، فيبادرون إلى استعمالها وإبقاء اليتيم من دون مال بفعل عمليّة النهب والاستغلال؛ الأمر الذي يمثّل أبشع أنواع الظلم، وقد جاء: أن «ظلم الضعيف أعظم الظلم». {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} فإن هذا الظلم الوحشي الذي يعبر عن فقدان المشاعر الإنسانية في شخصيات هؤلاء الأولياء سوف يتحوّل إلى نار تشتعل في بطونهم عذاباً من الله وعقاباً لهم على ذلك، وربما كانت المناسبة في هذه الاستعارة أن الإنسان يأكل الطعام ـ عادةً ـ ليتغذى وليقوى به وليحصل على الراحة الجسدية بفعل اللذة التي يحس بها، فجاءت الآية لتصور النتائج في أكل مال اليتيم كمن يأكل ناراً فتشتعل في بطنه لتحرقها وتثير فيه كل آلام الحريق.

وقد جاء في تفسير الميزان أن «الآية مما يدل على تجسّم الأعمال... ولعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} كلام على الحقيقة دون المجاز. وعلى هذا لا يرد عليه بما أورده بعض المفسرين، أن قوله {يَأْكُلُونَ} أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} عليه وهو فعلٌ دخل عليه حرف الاستقبال، فلو كان المراد به حقيقة الأكل ووقته يوم القيامة لكان من اللازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم ناراً ويصلون سعيراً، فالحق أن المراد به المعنى المجازي وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه ناراً. انتهى ملخصاً. وهو غفلةٌ عن معنى تجسّم الأعمال[3].

والظاهر أن ما ذكره هذا البعض هو الأقرب لأن التجسم في مضمونه الفكري، لا معنى له في الواقع الذي يعيشه الإنسان بالنسبة إلى هذه المسألة، بل هو أمرٌ تُرك إلى يوم القيامة، فلا معنى للحديث عنه في مرحلة الحياة الدنيا حتى لو كان المراد به تجسّد العمل في طبيعته إلى ذات النار. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإن هذا الرأي خاضعٌ للاستغراق في حرفيّة الكلام القرآني بعيداً عن جانب الاستعارة والكناية ونحوها مما يفهمه العرب بشكلٍ طبيعيٍّ جدّاً بالطريقة التي يفهمون بها التعابير الفنية على أساس القواعد البلاغية بنحو التبادر الذي يسبق إليه الذهن لأول مرّة. وإذا كانت بعض الأحاديث توحي بذلك فإن علينا أن نعرضها على القرآن الذي يؤصّل المفاهيم الإسلامية لتكون الأحاديث خاضعةً لعناوينه وظواهره بدلاً من العكس.

{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} في يوم القيامة فيحترقون في النار ويقاسون عذابها. وقد جاء في تفسير العياشي عن أبي عبد الله أو أبي الحسن(ع): إن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنين: أما إحداهما فعقوبة الآخرة النار، وأما الأخرى فعقوبة الدنيا قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} قال: يعني بذلك ليخش إن أخلفه في ذريته كما صنع هو بهؤلاء اليتامى[4].

وقد نلاحظ في هذه المتابعة القرآنية لموضوع علاقة الإنسان بالأيتام بأسلوب الترغيب والترهيب، في أكثر من آية، أن الله يريد أن يحقق في داخل كل منا حالة نفسية ضاغطة، ضد النوازع الذاتية التي قد تدفعه إلى استغلال جانب الضعف المتمثل في حياة الأيتام الذين لا يملكون أمر حماية أنفسهم من الظلم والاضطهاد، لتكون تلك الحالة سبيلاً من سبل حمايتهم من نوازعنا الشريرة؛ وهذه طريقةٌ قرآنية إسلاميةٌ مستخدمةٌ في جميع الحالات التي نلتقي فيها بواقع القوة والضعف، في المجالات التي لا يملك فيها الضعيف أمر الدفاع عن نفسه؛ فإن القرآن يواجه المسألة بشكلٍ قويٍّ جداً، ليخلق التوازن بين واقع الضعف الموجود لدى الفئات الضعيفة، وبين واقع القوة الموجود في الجانب الآخر، ليضعف الشعور بالقوة في هذا، ويقوّي جانب الضعف هناك، فيمنع القوي من ظلم الضعيف. أمّا في الحالات العادية فإن القرآن يثير التهديد بشكل عادي بالأسلوب المألوف.

ـــــــــــ

(1) البحار، م:32، ج:90، ص:465، باب:252، رواية:21.

(2) (م.س)، م:34، ج:93، ص:218، باب:46، رواية:25.

(3) تفسير الميزان، ج:4، ص:210.

(4) نقلاً عن البحار، ج:72، باب:31، ص:269، رواية:24.